غزة – وكالات
يمارس جيش الاحتلال، ومن خلفه منظومة الدعاية الإسرائيلية، منذ أسبوعين، أعلى مستويات الحرب النفسية تجاه سكان مدينة غزة وشمالها، وذلك عبر الإغراق في التفاصيل الدقيقة والخطوات التفصيلية لعملية احتلال المدينة. ففي الأيام الثلاثة الماضية، نشر ضباط وقادة في جيش الاحتلال، بشكل رسمي، تصريحات عدّة ذات صلة بخطط احتلال المدينة، آخرها تمثّلَ بالإعلان عن البدء في إدخال كميات كبيرة من الخيام والبنى التحتية عبر معبر كرم أبو سالم، لإقامة مخيمات إنسانية لإخلاء سكان غزة وشمال القطاع إليها.
ووفقاً لما نشره الإعلام العبري، فإنّ المنطقة التي جرى إعدادها لاستقبال مليون نازح من شمال وادي غزة، هي جنوب محور «موراغ»، أي مدينة رفح المحاصرة بمحورَي «موراغ» و«فلادلفيا»، وهي مساحة محاصرة تنشط فيها مجموعات «أبو شباب» العميلة. أيضاً، قالت مصادر عبرية إنّ رئيس الأركان، إيال زامير، وافق على الخطط التفصيلية لاحتلال المدينة، وإنه من المتوقّع أن يُطلع وزير الجيش، يسرائيل كاتس، عليها قبل عرضها على كابينت الحرب في نهاية الأسبوع للحصول على الموافقة النهائية.
وفي السياق، نشرت صحيفة «ريشت كان» تقريراً للصحافي سليمان مسودة، ذكر فيه أنّ رئيس الأركان شارك في نقاش مع مسؤولين في «هيئة شؤون الأسرى» لمحاولة تقليل الأخطار التي يمكن أن تلحق بالأسرى الذين تحتفظ بهم المقاومة في مدينة غزة. ولأجل هذا، يُعقد يوم دراسي للضباط الميدانيين برتبة عقيد فما فوق، من الذين تتوقّع مشاركتهم في عملية احتلال المدينة.
وشارك الصحافي الإسرائيلي معلومات تفصيلية أخرى عن خطّة إخلاء سكان غزة التي ستُعرض على الأميركيين، وتتضمّن عدة مراحل عملياتية تبدأ بالجهد الإنساني المتمثّل ببناء مجمّعات إنسانية جنوب القطاع، تشمل بنى تحتية أساسية وخياماً وماء وعيادات طبية، ثم تنتقل إلى إخلاء واسع للسكان بعد أسبوعين على الأقل، لتنطلق عقب ذلك المناورة البرّية وعملية تطويق المدينة مع الاستمرار في إخلاء السكان. وفي وقت لاحق، تبدأ العملية البرية باحتلال مدينة غزة تدريجياً بموازاة ضربات جوّية مكثّفة، مع توقّع أن يتواصل الهجوم لأربعة أشهر.
ويقول مسودة في تصريح آخر، إنّ مصدراً سياسياً أخبره بأنّ إسرائيل نقلت رسالة تهديد إلى الوسطاء ليمرّروها إلى حركة «حماس»، مفادها أنه إذا لم تعد الحركة إلى طاولة المفاوضات، فإنّ المرحلة الأولى من عملية احتلال غزة ستبدأ في وقت قريب. هذا التناقض يضع الغزّيين في حالة من الإنهاك النفسي، لا سيّما أنهم شاهدوا خلال 22 شهراً من الحرب، كيف تتحوّل التهديدات والخطط المعلنة والمضمرة إلى وقائع على الأرض، خصوصاً بعد حصار شمال غزة قبيل هدنة كانون 2025، حيث يُعتبر حصار مخيم جباليا وبيت لاهيا وبيت حانون في شمال غزة، وما تخلّله من مجازر ارتكبها جيش العدو هناك بحق الأهالي الذين رفضوا النزوح، واحدة من أبشع التجارب.
وإذ يستذكر الأهالي حكايات الشهداء الذين أكلت جثامينهم الكلاب الضالّة، والضحايا الذين قضوا بعدما حوصروا لأسابيع تحت الركام من دون أن يستطيع أحد إنقاذهم، فإنّ كل تلك الجرائم تحضر الآن في قرار النزوح من عدمه، علماً أنّ الناس باتوا يفضّلون كل أنواع العذابات التي عاشوها في الحرب على النزوح، خصوصاً أنهم لم يتجاوزوا بعد ويلات التجربة التي أمضوها على مدى 15 شهراً في جنوب القطاع. ورغم أنّ أكثرهم عادوا ونزحوا داخلياً في غرب مدينة غزة بعد عملية «مركبات جدعون»، فإنهم الآن أقرب ما يكونون إلى الأحياء التي هُجّروا منها.
ويقول أبو محمد سامي، لـ«الأخبار»، إنّ «النزوح قطعة من العذاب، وموت بطيء. أنا مهجّر من حي الشجاعية، وبيتي مدمّر، لكنني بالقرب من الشجاعية أشعر بالأنس. أكثر الناس ليس لديهم من أموال للنزوح. فالنزوح ليس عذاب الطريق فقط. يجب أن تبدأ من الصفر بتأسيس مكان يؤويك. وفي جنوب القطاع كلّه لا يوجد متر مربع واحد خالٍ. أنا أفضّل الموت على النزوح».
وعلى المستوى السياسي، تجتمع فصائل المقاومة الفلسطينية في القاهرة، حيث علمت «الأخبار» من مصادر فصائلية أنّ الوسطاء عرضوا المطالب والاشتراطات الإسرائيلية لوقف الحرب، وهي نزع سلاح المقاومة وإبعاد القيادات العسكرية والسياسية وتسليم جميع الأسرى الأحياء والأموات، مع احتفاظ جيش الاحتلال بـ25% من مساحة القطاع والسيطرة الأمنية المستدامة عليه وتشكيل حكومة ليست من «حماس» ولا من «فتح» تقبل بالعيش بسلام مع إسرائيل. ووفقاً لمصادر «حمساوية» تحدّثت معها «الأخبار»، فإنّ رئيس وفد الحركة، خليل الحية، قال إنّ الحركة تشترط وجود مسار سياسي ودولة فلسطينية للقبول بإلقاء السلاح.
بالنتيجة، وبالاستناد إلى تجربة 22 شهراً من الحرب، تتعامل إسرائيل مع جولات التفاوض، على أنها غطاء للعمل العسكري الميداني؛ إذ لم يسبق أن نُفّذت عملية كبرى تُحدث ضجّة في الرأي العام الدولي وتنتهك فيها إسرائيل القوانين الدولية والإنسانية، من دون وجود مسار تفاوضي يأخذ حصّة من التركيز الإخباري ويوفّر غطاءً للجريمة.
المصدر: الأخبار اللبنانية