على عكس ما كان متوقعا، لم تشكل زيارة ابو مازن إلى واشنطن، مرحلة كسر عظم في تاريخ العملية التفاوضية في الشرق الأوسط. حيث اختار الطرفان الاميركي والفلسطيني استراتيجية الهروب إلى الأمام بديلا عن الإعلان عن فشل جهود السلام.
وتفيد التسريبات الإعلامية بأن اللقاء الثنائي الذي جمع الرئيس الاميركي باراك أوباما مع الرئيس الفلسطيني محمود عباس كان صعبا للغاية، وامتد لعدة ساعات طويلة ناقشا فيها كافة المسائل والمشاكل وجرى تداول العديد من المقترحات والأفكار التي من شأنها جسر الهوة بين الطرفين الفلسطيني والإسرائيلي، من دون أن يسلم الجانب الاميركي الفلسطينيين اتفاق إطار، أو افكار مكتوبة كما جرى الترويج له، وخرج الرئيس الفلسطيني من اللقاء - مجهدا - نظرا لحجم الضغوط التي مورست عليه.
لكن الرئيس أبو مازن والقيادة الفلسطينية، كانا قد اتخذا قرارا قبل الذهاب إلى واشنطن بالذهاب حتى النهاية في مقاومة كافة الضغوط، وعدم قبول أي اتفاق لا يتضمن الثوابت الفلسطينية. وفي كلمة له قبيل مغادرته واشنطن امام المجلس الثوري لحركة فتح، أكد الرئيس محمود عباس: بأن عمره الآن 79، ولن يختتم حياته بخيانة للقضية الفلسطينية.
وبحسب مواقع إخبارية، فإن الرئيس أبو مازن أبلغ باراك اوباما، خلال اللقاء الذي جمعه به، بأنه لا يستطيع تمديد المفاوضات بعد شهر نيسان، إذا لم يحصل على ثمن سياسي كبير -، بسبب حجم المعارضة الفلسطينية الداخلية لمثل هذا التوجه، ومعارضة فصائل منظمة التحرير القوية لهذه الخطوة. وطلب أبو مازن من الرئيس الاميركي تكثيف الضغط على بنيامين نتنياهو من أجل القبول بإطلاق سراح أسرى فلسطينيين من ذوي الوزن الثقيل أمثال مروان البرغوثي، واحمد سعدات، وفؤاد الشوبكي، وإلا فإن مستقبل العملية التفاوضية في خطر.
في حين طالب باراك أوباما الرئيس الفلسطيني، باتخاذ قرارات صعبة وجريئة. الأمر الذي اعتبره محللون فلسطينيون بأنه قطع من اللحم الفلسطيني - حيث قال الكاتب طلال عوكل إن ما يطلبه الرئيس الاميركي من أبو مازن هو القبول بأنصاف وارباع حقوق الفلسطينيين، وان تتراخى القيادة الفلسطينية في موضوع القدس، فتقبل بقدس رمزية في احد احياء وضواحي القدس، وان تتخلى عن حق عودة اللاجئين لأن ذلك وهم ينطوي على تهديد أمني وديمغرافي واستراتيجي على إسرائيل وان يعترف الفلسطينيون بيهودية دولة إسرائيل. وفي هذا الإطار يتحدث محلل إسرائيلي في صحيفة - هآرتس فيقول: عندي اقتراح للرئيس محمود عباس، ففي المرة التالية حين يطالبك فيها رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو بان تعترف بإسرائيل كـ»دولة يهودية»، قل له انك ستوافق بشرط واحد. يجب ان يتفق مجلس الوزراء الاسرائيلي اوَلاً على ما تعنيه «دولة يهودية». ان هذا سيريحك لفترة طويلة، والسبب ببساطة يعود إلى أن إسرائيل لم تكن قادرة قط عبر تاريخها على تعريف مصطلح دولة يهودية نتيجة لافتقارها لدستور.
وليس بعيدا عن ذلك فقد تحدث وزير الخارجية الاميركي جون كيري في اجتماع مغلق مع أركان اللوبي اليهودي تزامنا مع زيارة ابو مازن لواشنطن وطلب منهم وقف الضغط على محمود عباس، في ما يتعلق بملف يهودية الدولة. واوضح كيري خلال اللقاء، بأن قرار مجلس الأمن رقم 181 الخاص بالقضية الفلسطينية يتضمن ذكر عبارة - يهودية إسرائيل - ودولة اليهود 33 مرة وهو بذلك يشكل قاعدة عمل ستمنح إسرائيل الحق في تسمية نفسها بدولة يهودية ضمن قرارات المرجعية الدولية وليس بتصريح فلسطيني.
الشارع الفلسطيني تابع باهتمام بالغ وقائع زيارة أبو مازن لواشنطن ونتائجها، وهو يدرك تماما بأن ابو مازن لم يذهب إلى البيت الأبيض من اجل التفريط بالحقوق الفلسطينية، ولكن من اجل درء مخاطر تحميل الجانب الفلسطيني فشل عملية التسوية. وتزامنا مع لقاء اوباما عباس، جرت في مدن وشوارع الضفة وغزة تظاهرات حاشدة لشد ازر الرئيس الفلسطيني في مواجهة الضغوط الاميركية، واكد المشاركون بها على رفضهم لأي إغراءات اقتصادية او مالية إذا كان الثمن هو التنازل عن الثوابت الفلسطينية.
لكن في الوقت نفسه، لا يخفي الفلسطينيون قلقهم من انهيار السلطة سواء بسبب الضغوط الداخلية والخلافات الفتحاوية الفتحاوية، او بسب فشل عملية السلام وتعرض السلطة الوطنية لسلسلة من العقوبات الاقتصادية والسياسية المقصودة وغير المقصودة من قبل إسرائيل والمجتمع الدولي. وتشير دراسة أصدرها المركز الفلسطيني للدراسات السياسية والمسحية، وحملت عنوان مبادرة اليوم التالي أي اليوم التالي لانهيار المفاوضات بين الفلسطينيين والإسرائيليين، إلى أن عددا ضئيلا- فقط - من الفلسطينيين يعتقد بأن على السلطة الفلسطينية ان تحل نفسها بنفسها لإجبار إسرائيل على تحمل مسؤوليتها الكاملة كقوة محتلة.
وبحسب هؤلاء، فان هذا الامر في حال حصوله، سيضطر الدولة العبرية لأن تختار من بين احد الخيارين التاليين: إما تعزيز واقع الدولة الواحدة أي أن تصبح دولة فصل عنصري أو تمنح الفلسطينيين الاستقلال والسيادة. ولكن الدراسة أقرت بأن معظم الفلسطينيين تربطهم مصالح عميقة مع السلطة وهم يريدون أن تستمر في تحمل مسؤولياتها الإدارية والمالية، والأمر لا يقتصر فقط على مئات آلاف الموظفين في الضفة الغربية والقطاع، بل يتعدى ذلك ليشمل الدورة الاقتصادية ككل والنظام الاجتماعي والسلطوي بأسره . وفي الوقت نفسه يعترف غالبية الفلسطينيين بان اسرائيل تنظر الى السلطة الفلسطينية على انها تلعب دورين مهمين: تعفي سلطة الاحتلال من مسؤولية رعاية أولئك الذين يعيشون في ظل الاحتلال، وتقي إسرائيل التي ترغب في حماية هويتها اليهودية من التهديد الديموغرافي.
وترى الدراسة أيضا انه في حال انهارت السلطة الفلسطينية او تم حلها، فان هذا الامر قد يشكل ضربة مدوية لجهود الفلسطينيين الرامية لتوحيد الضفة الغربية وقطاع غزة، وخصوصا إذا ما خضعت الأولى لاحتلال إسرائيلي كامل أي الضفة -، وكسبت الأخيرة المزيد من الاستقلال ومن سمات الدولة أي غزة -.
وبالطبع فإن أسوأ السيناريوهات لانهيار السلطة الفلسطينية أو حلها سيكون التأثير الثنائي لغياب القانون والنظام العام من جهة، ولتلاشي اكثر من 3 مليارات دولار من الإنفاق العام. حيث سيؤدي ذلك إلى انهيار واسع في نظام العدالة وحقوق الإنسان والأمن، بالإضافة إلى تدهور خطير في معظم الخدمات والقطاعات والبنى التحتية.
وبعد لقاء باراك أوباما وأبو مازن الأخير والذي وصفه المراقبون بالفاشل يعود سيناريو حل السلطة إلى الطاولة، ولكن في الوقت نفسه فإنه من المبكر الحديث عن هذه الخطوة نظرا لحجم تداعياتها، ولأن القيادة الفلسطينية ما زالت تولي أهمية ما لجهود اللحظة الأخيرة للوزير كيري، وهي ترى أنه من الأفضل للفلسطينيين من الناحية الواقعية الاحتفاظ بما تم الحصول عليه، مع الانطلاقة القوية نحو المؤسسات الدولية في حال فشل كيري.
المصدر: صحيفة المستقبل