هبة دهيني
لا غروَ أنّ مشاهد الدّم والدّمار في قطاع غزّة اليوم، والموت اليوميّ أمام أرغفة الخبز، عبرَ مشاهدةٍ افتراضيّةٍ من بعضِ "المؤثّرين على مواقع التواصل الاجتماعيّ"، بينما هُم جالسون في منازلهم، في أوقات فراغهم -أيّ طِوال اليوم- من على مقاعدهم في الصّالونات الوَثيرة، قد يدفعهم للتّحدّث عن "هزيمة المقاومة"، مبشّرينَ بمجيء ما يسمّونه بـ "عصر أمريكا".
ولا شكّ أيضًا أنّ هؤلاء أنفسهم، يحترفونَ التّنظير على غزّة بشعبها ومقاومتها، ويحفظون مرادفات "السّلام" عند كلّ منعطف، ويتقنونَ الاستجابةَ لأفعال الأمر الرّكيكة في التّخاذل والرّضوخ، يطبّعونَ مع "أمريكا" وابنتها المدلّلة "إسرائيل"، ويتّخذون موقف الحياد بحجّة "ضرب الظّالمين بعضهم ببعض"، ينتَقونَ أرذل أنواع التّفسير والتّحليل السّياسيّ، وينفثون ضغينتهم الطّائفيّة، يصفّقون لـِ "ترامب" وينحَنون لأتباعه، ثمّ إن سألتَهُم عن أفعالهم المساندة لغزّة قالوا: "نحن ندعو، هذا أقصى ما نقوم به"، ودعاؤهم: "اضربِ الظالمين بالظالمين".
وهنا مربَطُ الفَرَس، إنّ كلّ هؤلاء، بأقاويلهم وإسرافهم في المذلّةِ والبطش والعنجهيّة، هم بحدّ ذاتهم، لا يعرفونَ من فلسطينَ سوى اسمها، ولا من غزّة سوى حدودها مع مصر، وهم أنفسهم، يختبئونَ تحت "ظلّ" واشنطن في كلّ مرّةٍ يُلَطَّخ فيها البيت الأبيض بصواريخ المقاومين، وهم لا سواهم، من يعيشون حيواتِهِم بأقصى قدرٍ من الرّفاهية، ويتغنّون بالاستهلاكِ المضاعف الّذي بدوره يحتضن اقتصاد العدوّ.
إنّ الكلام عن أفعال هؤلاء يطول، وإنّي قد تقَصَّدتُ استهلالَ الكلامِ بالحديث عنهم، للانتقالِ إلى من تحكي عنهم أفعالهم لا أقوالهم، وإلى من جعلونا نرى "تل أبيب" كما نحبّ أن نبصرها دائمًا، إلى الّذين جعلوا من "يافا المحرَّرة" اسمًا قريبًا، وإلى من جعلوا من سمائنا مشهدًا مقدّسًا من صواريخ تلمع في منتصف الليل، ننتظرها بأقصى آمالنا، لا لأنّنا نحبّ أضواء المساء، بل لأنّ كلّ صاروخٍ تطلقه الجمهوريّة الإسلاميّة في إيران، إنّما هو ثأرٌ لدمعة كلّ غزّيّ لم يستطع أن يبصر النّورَ إذ فقَدَ بصَرَه إثرَ غارة.
إنّه عصر فلسطين، لا عصرُ "أمريكا"، وإنّ كلّ من يرى في ذلكَ كلامًا وجدانيًّا فليراجِع كلّ مصطلحاتِ الوجدانِ وأساطير اللغة، إنّ فلسطين هي تعريف لغتنا الحاليّة أصلًا، وهي حاضرنا وعصرُنا ومركز الصّراع الوجوديّ في هذا العالم، وإنّ الإيمان بمقولة "هذا عصرُ أمريكا"، إنّما هو خنوعٌ لأفظعِ آلة استكبارٍ وإمبرياليّةٍ على مرّ العصور، وانحناءٌ لأكبر مشروعِ إبادةٍ على مرّ تاريخ غرب آسيا والمنطقة، ودهسٌ على دماء الشّهداء جميعًا، بلا استثناء.
نقول إنّه عصر فلسطين لا لأنّنا نحبّ التّغنّي بالبلاد واسمها -على الرّغم من أنّنا نحبّ ذلك فعلًا- وإنّما لأننا نرى، كيف سطّرَت أقدام رجال جنوب لبنان، إسنادًا لا بديل عنه لقطاع غزّة، يحتاج عمرًا كاملًا لاستيعاب القدرة على التصدّي بكلّ هذا الفخر والصّمود، والقدرة على فهم كلّ هذا الفقد الّذي يهدأ حين تقول أمٌّ قدَّمَت كلّ أبنائها في الجنوب: "فدا غزّة".
نقول ذلك لا لأنّنا نحبّ الموت، بل لأنّنا نعشق كلّ طريقٍ يؤدّي إلى البلاد، ونهوى خطّ التّماس الأخير، لأنّه الأقرب نحو أرضنا، ولأنّنا نبصر فعلًا، كيف استطاع يمنيٌّ أن يقلب المعادلات، ويغيّر مفاهيم الجغرافيا، حتّى صار السّلاح شرطًا لقُرب المسافة، لا الأراضي والحدود، إذ رأينا، أنّ صنعاء أقربُ لغزّة من مصر وما ساواها، وصارَتِ القاف اليمنيّة جزءًا لا يتجزّأ من حروف اللغة، وبيانات القوّات المسلّحة أصلُ العروبة والشّجاعة والثّبات.
وأخيرًا، نقول ذلك لأنّ عمامةً سوداء مرّت على أذهاننا عام 1979، ثمّ ذاب جسد صاحبها في العشق الإلهيّ حتّى وصل، لكنّ الرّوح بحدّ ذاتها استطاعت أن تمهّد لـ 46 عامًا من الانتصار والثّبات أمام أعتى "جيوش" العالم وقوى الهيمنة في المنطقة، ليبقى اسم الإسلام مسيرًا متكاملًا من المقاومة الّتي وضعَت في عُهدتها اسم فلسطين، فعرفنا مُذ شَعَرَ العالم بعُمقِ هذا الانتصار، أنّ العصر القادم هو فعلًا.. عصرُ فلسطين!