راغدة عسيران
أحد أهم الأسباب لشن العدوان الصهيوني الوحشي على لبنان هو منع حزب الله والحركات المقاومة اللبنانية الأخرى من مساندة أهل فلسطين ضد الإبادة الجماعية التي يرتكبها العدو في قطاع غزة منذ 8/10/2023. هناك أسباب أخرى لهذا العدوان المدعوم كليا من الغرب أضيفت خلال الشهور الماضية، منها إعادة المستوطنين المهجّرين الى مستوطنات شمال فلسطين المحتلة، واجتثاث قيادة حزب الله ومحاولة ترتيب الأوضاع جنوب الليطاني وفقا لخطة تهجيرية أعاد الصهاينة والغرب الاستعماري التفكير بها. فتتطابق هذه الأهداف مع التي وضعتها الحكومة الصهيونية بالتنسيق مع الغرب الاستعماري في حربها ضد الشعب الفلسطيني ومقاومته في قطاع غزة.
لكن منع إسناد الشعب الفلسطيني المهدّد بالإبادة والتهجير والإستفراد به شكّل منذ ولادة الحركة الصهيونية، وقبل إقامة الكيان الإستعماري في فلسطين، أحد أهم منطلقات الفكر والممارسة الصهيونية. هذا ما يمكن استخلاصه من كتاب صدر قبل سنوات حول "الوكالة اليهودية وسوريا خلال الثورة الفلسطينية 1936-1939" من تأليف المؤرخ الفلسطيني محمود محارب.
في هذا الكتاب، يتابع المؤرخ محمود محارب نشأة الوكالة اليهودية وعملها في سوريا ولبنان، وعلاقاتها بالأحزاب السورية، وخاصة الكتلة الوطنية الأكثر شعبية في ذلك الوقت، واللقاءات والمحادثات التي جرت بين المؤسسة الصهيونية وبعض قياديي الكتلة الوطنية من أجل فصل الدولة السورية الناشئة عن الشعب الفلسطيني وثورته ضد الاحتلال البريطاني والاستيطان الصهيوني في فلسطين. وفي لبنان، بالإضافة الى تجنيد العملاء. وتركّزت جهود الوكالة اليهودية على الصحافة، من أجل إيجاد تيار شعبي مؤيد لإقامة الكيان اليهودي الاستيطاني والامتناع عن مساندة الشعب الفلسطيني، وبث النعرات الطائفية والفرقة بين شعوب المنطقة.
في اللقاءات مع الشخصيات السورية واللبنانية، كانت الوكالة اليهودية تؤكد على نيّة الحركة الصهيونية إقامة وطن قومي يهودي في فلسطين ورفضها التام لكل الضغوطات لوقف الهجرة اليهودية، التي كانت تطالب به الحركة الوطنية الفلسطينية والحركات العربية المؤيدة لها. في الوقت ذاته، كانت تؤكد لها، من أجل إزالة المخاوف العربية من المشروع الصهيوني، أن الحركة الصهيونية ستجلب التقدم والرقي للفلاح العربي والمجتمع الفلسطيني بشكل عام، وأنها تريد العيش بسلام مع الشعوب العربية. وتضيف: بما أن "اليهودية العالمية" قوية، يمكنها أن تساعد الحركة الوطنية السورية على نيل استقلال سوريا، بالضغط على الحكومة الفرنسية من أجل ذلك، وخاصة بعد وصول الاشتراكي الصهيوني ليون بلوم الى الحكم. وكان التحذير المبطن يقول أنه من الأفضل عدم معارضة المشروع الصهيوني، بل العمل معه ودعمه من أجل استقرار ورقي الشعوب العربية والكفّ عن مساندة الشعب الفلسطيني.
لقد تجاوبت بعض الشخصيات السورية واللبنانية مع المشروع الصهيوني، وكما قال فخري البارودي (من الكتلة الوطنية) في إحدى اللقاءات (1936): "الآلاف من السوريين يريدون الذهاب الى فلسطين لمساعدة أخوانهم، لكن أوقفناهم، ومنعنا تهريب السلاح أيضا... خاصة إن كان يتم هذا التهريب لأسباب وطنية".
هدفت الحركة الصهيونية في ذلك الوقت، وذراعها الاستخباراتي في الدول العربية، الى وقف الدعم العربي، وخاصة السوري، الى الثورة الفلسطينية، وإحداث توتر بين الكتلة الوطنية والحركة الوطنية الفلسطينية، وجعل الشعوب العربية وأحزابها تنكر الحقوق الوطنية الفلسطينية وتصوير الحركة الوطنية الفلسطينية كحركة متشدّدة وإرهابية. أراد الصهاينة والبريطانيون عزل الشعب الفلسطيني والإستفراد به للقضاء عليه دون أن تتحرك الشعوب العربية وحكوماتها لإنقاذه.
يشكّل هذا السلوك (الاستفراد بالشعب المهدّد) إحدى سمات السلوك الاستعماري الغربي، وينبع من النظرة العنصرية الإستعلائية الغربية التي تنكر وجود شعوب لها تاريخ وحضارة، بل تنظر اليهم كسكان يمكن اقتلاعهم وفقا للمشاريع الاستعمارية الاستيطانية والضروريات العسكرية.
أحدثت مقاومة الشعوب للاستعمار الاستيطاني سببا آخر لاستنفار الدول الاستعمارية ضد الدعم والإسناد، لأنها تؤسس لمستقبل ترى فيه الشعوب حريتها واستقلالها السياسي والاقتصادي والفكري عن محور الشر الغربي.
واليوم، لم تعد المسألة الدفاع عن الشعب الفلسطيني المظلوم فحسب، بل العمل على توحيد ساحات القتال ضد الكيان الصهيوني كقاعدة للغرب المتوحش والمحاصرة الشعبية لملحقاته العربية، وبلورة استراتيجية تحرير للأرض المغتصبة والتخلص من الفكر المهزوم المهادن للغرب الاستعماري.
لقد فتحت استراتيجية وحدة الساحات أفقا واسعا، وإن لم يكن مكتملا الآن، حيث لم تتجاوب مع الشعب الفلسطيني ومقاومته كافة القوى العربية والإسلامية بشكل عملي. رغم تكتم الدوائر الرسمية العربية على اندفاعة الشعوب لمساندة أخوانهم في فلسطين، وخاصة في الأردن حيث تفّذ الشهيد ماهر الجازي عملية بطولية على معبر الكرامة يوم 12/9/2024، تصاعد التوتر في عدة دول عربية وإسلامية، بسبب استمرار المذابح اليومية في قطاع غزة والحصار المطبق على أهله، بدعم المجتمع الدولي المنافق.
لم يكتف الصهاينة بعزل الشعب الفلسطيني عن محيطه العربي والإسلامي، فاتبعوا سياسة التجزئة والتفتيت لمنع وحدة الشعب الفلسطيني في المعارك التي تخوضها بين الحين والآخر فئات متضررة من العدوان الصهيوني بشكل خاص. حاول الصهاينة عزل واستفراد هذه الفئات ومنع توحيد ساحات النضال لكنه فشل، وخاصة خلال معركة "سيف القدس" (10-21/5/2021) عندما تدخّلت المقاومة المسلحة من قطاع غزة الى جانب المقدسيين ومن أجل حماية المسجد الأقصى من التهويد، تأكيدا على وحدة الشعب والأرض والقضية. تبعتها معركة "وحدة الساحات" التي أطلقتها حركة الجهاد الإسلامي في فلسطين في 5-7/8/2022 دفاعا عن الشعب والمقاومة في الضفة الغربية المجاهدة وعن الاسرى في سجون العدو. هنا أيضا، لم تكتمل وحدة الساحات، رغم التأكيد على وحدة الشعب والأرض والقضية، كونها مشروع تحرير يتطلب التخلص من أوهام التسوية وأوهام المواطنة "الإسرائيلية" لفلسطينيي 48.
وحدة الساحات كمشروع تحرير وكممارسة قتالية اليوم، في فلسطين ومن لبنان واليمن والعراق وسوريا، ينسف المشاريع الاستعمارية الغربية التي يطبقها العدو الصهيوني، لأنها تثبت مركزية فلسطين والقضية الفلسطينية في العالم العربي والإسلامي، أولا، ثم تربط بين التبعية للغرب الاستعماري والأنظمة الحاكمة في بلادنا، التي لم تتحرك إلا لفظيا بعد قرابة عام كامل على بدء حرب الإبادة في قطاع غزة وحرب التهجير في سائر مناطق فلسطين. فلذلك، تعتبر جبهة الإسناد التي تتحول تدريجيا الى وحدة الساحات مقابل الهمجية الصهيونية وداعميها مرحلة مفصلية في التاريخ المعاصر لمنطقتنا، تفوق في أهميتها الدعم والمشاركة الشعبية العربية في الثورة الفلسطينية عام 1936-1939 وما تلاها من ثورات وانتفاضات في فلسطين المحتلة، لأنها أولا تتحدى العالم المنافق كله وتزعزع أركانه المنبثقة عن التفوق العسكري الغربي ما بعد الحرب العالمية الثانية، ثم توظّف التضحيات البشرية الهائلة والدمار الشامل من غزة الى الضفة ولبنان في مشروع التحرير المشرق الذي ينتظر الأجيال القادمة.