بقلم: عبد السلام بنعيسي*
كانت ولادةُ المبادرة العربية للسلام في مؤتمر القمة العربي المنعقد سنة 2002 في بيروت، ولادةً عسيرة. أثير لغطٌ كثير حول بنودها وهي على الطاولة. لم تشر المبادرة في نسختها الأولى إلى بند حق العودة بالنسبة للاجئين الفلسطينيين. الرئيس اللبناني الأسبق إميل لحود هو الذي أصرَّ على إدراج هذا البند، وهدّد بعدم السماح بصدور البيان الختامي حتى لو كان ذلك سيؤدي إلى إعلان فشل مؤتمر القمة الذي كان هو من يرأس اشغالها، ما لم يتضمن البيان ما يشير إلى حق العودة. أرئيل شارون الذي كان يرأس مجلس وزراء الكيان الصهيوني، وكان قد انتهى لتوّه من تدمير مخيم جنين على رؤوس ساكنيه، صرَّح حينئذ بأن مقررات القمة إياها، لا تساوي حتى قيمة الحبر الذي كُتبت به.
مع ذلك، تبنى الملوك والأمراء والرؤساء العرب نتائج أشغال هذه القمة، وتعاهدوا على التقيد بما جاء فيها، وتم تسويقها وسط الرأي العام العربي على أساس أنها مبادرة تنصُّ على الاستمرار في فرض المقاطعة على "إسرائيل"، وعدم التطبيع معها، حتى القبول بإنشاء الدولة الفلسطينية بعاصمتها القدس الشرقية، والانسحاب من الأراضي العربية المحتلة سنة 1967، والانصياع لقرارات الشرعية الدولية..
لكن حين أعلن لقناة فوكس نيوز الأمير محمد بن سلمان ولي عهد المملكة العربية السعودية التي كانت وراء صياغة بنود هذه المبادرة عن استعداد الرياض تطبيع علاقاتها مع الكيان العبري مقابل "توفير حياةٍ كريمة للفلسطينيين"، فإنه فرض علينا التساؤل حول معنى حياة كريمة للفلسطينيين؟
ما هو المقصود بها؟ هل المقصود هو الاكتفاء بتوفير المأكل والملبس والتطبيب للفلسطينيين بالأموال العربية؟
وهل الكرامة يمكن أن تتحقق في غياب الحرية والاستقلال ودون إنشاء الدولة الفلسطينية التي قدم الشعب الفلسطيني من أجل الوصول إليها آلاف الشهداء والجرحى والأسرى؟
كيف يمكن أن تكون للفلسطيني كرامةٌ وهو يعيش في ظل احتلالٍ، وتحت نظامِ فصلٍ عنصري، يعتبر "الإسرائيلي" أعلى مرتبة، وأوفر حقا منه؟
وهل يقبل الفلسطينيون بهذا العرض السعودي؟
وما العمل في حالة رفضهم له؟
هل سنجبرهم على قبوله، وكيف يكون هذا الإجبار وما هي وسائل تنفيذه؟؟؟
بهذا التصريح، أعلن ولي العهد السعودي، في الواقع، التخلي عن مبادرة السلام العربية وقام باستبدالها بعبارة "توفير حياةٍ كريمة للفلسطينيين". وإذا شئنا التدقيق يجوز لنا القول، إن المملكة العربية السعودية نفضت يديها من المبادرة العربية للسلام قبل هذا التصريح بزمن بعيد، وذلك حين باركت ضمنيا تطبيع الإمارات العربية المتحدة والبحرين والمغرب والسودان مع "إسرائيل" دفعة واحدة في الصفقة الإبراهيمية. السعودية دولة قوية وذات نفوذٍ طاغٍ على محيطها، ولاشك في أن رأيها في قضية من حجم التطبيع مع "إسرائيل" سيؤخذ بعين الاعتبار، لجهة القبول بالتطبيع والمضي فيه، أو رفضه والتمنُّع في الإقدام عليه. من المستبعد تصوُّرُ أن هذه الدول كانت ستجرؤ على التطبيع وتمضي فيه بهذه الصيغة الجماعية المحمومة لو كانت متأكدة بأن هذا القرار يزعج الرياض وأنها تعارضه حقا.
مع تواصل محطات مارثون التطبيع في التلاحق بين البلدان العربية، ومع قرب الاستعداد لوصول واحدة من محطاته إلى الدولة السعودية، يمكن القول إن مبادرة السلام العربية ماتت وشبعت موتا ووقع دفنها، وأهيل عليها ركام كثير من الحجر والطوب والرمل. إنما الغريب هو أنه لم يعلن، بشكلٍ رسمي عن موت هذه المبادرة، ولم يقيموا لها مراسم تشييعٍ، ولا حتى صلاة جنازة وهم يدفنونها، تماما كما تفعل المرأة التي تدفن رضيعا لقيطا، للتخلص من عاره، بعيدا عن أعين أهلها، وذويها، ومعارفها.
*صحافي وكاتب مغربي