بقلم: راغدة عسيران
صدرت مؤخرا بعض التصرحيات لحكومات عربية (المغرب) والإسلامية (تركيا) تزعم أن تطبيع علاقاتها مع كيان العدو الصهيوني مفيدة لحلّ الصراع العربي – الصهيوني، أو بالأحرى، لا تتناقض معه، وأنها ليست بديلة عن علاقاتها مع الشعب الفلسطيني وقيادته السياسية المفروضة عربيا ودوليا والمتمثلة بالسلطة الفلسطينية.
من الناحية المبدئية، يجب التوقف عند نظرة الدول العربية والإسلامية المطبّعة وغير المطبّعة الى طبيعة الصراع مع كيان العدو. تؤيد معظم هذه الدول ما يطلق عليه عنوان "التسوية"، بين كيان استيطاني زرعه الغرب الامبريالي في فلسطين، وبين الشعب الفلسطيني الذي تم احتلال أرضه واستيطانها، وتم تشريده الى دول عربية مجاورة. تقوم هذه التسوية على إرضاء الشعب الفلسطيني بإقامة دولة فلسطينية على جزء صغير من أرض فلسطين (الضفة الغربية وقطاع غزة) الى جانب الكيان المحتل.
ومن جهة أخرى، تعتبر هذه الدول أن القضية الفلسطينية هي قضية الشعب الفلسطيني وحده، وأن المجتمع الدولي مسؤول عن إقامة هذه الدولة المنشودة، وليس عليها أي مسؤولية سوى التصويت في المؤسسات الدولية لصالح القضية و"دولة فلسطين"، وإطلاق الإدانات والتحذيرات الصوتية عندما تُمس المقدسات الإسلامية والمسيحية في القدس خاصة، وتقوم المؤسسة الاستيطانية بالمسّ بـ"الوضع القائم"، أي الوصاية الأردنية على المسجد الأقصى المبارك. والى جانب هذه المواقف التي لا تؤثر أصلا على دعم الشعب الفلسطيني وحقوقه التاريخية، والتي تندرج ضمن نظرة المجتمع الدولي (الولايات المتحدة أساسا) الى الصراع، تقدم هذه الدول بعض المساعدات "التنموية" والمادية للسلطة الفلسطينية والجمعيات الخيرية، ضمن ما يسمح به المجتمع الدولي، والتي تمرّ عادة عن طريقه، من أجل "تهدئة" الأوضاع وكبح أي تحرك ثوري يطيح بكل الأكاذيب والتلاعبات منذ اتفاقيات أوسلو المشؤومة.
قد تختلف هذه الدول من ناحية علاقاتها مع الكيان الصهيوني، أو عدمه، وفقا لتبعيتها للدوائر الامبريالية الغربية، ومدى اقترابها من وجدان شعبها الذي يرفض وجود كيان العدو. فكلما اقتربت من وجدانه ومشاعره وتطلعاته، كلما دعمت حقوق الشعب الفلسطيني ودعمت نضاله. وكلما كانت تابعة للدوائر الامبريالية الغربية، سياسيا واقتصاديا، كلما اقتربت من كيان العدو وأقامت علاقات معه، علاقات سياسيه أو تجارية أو أمنية، ما يعني أن تطبيع العلاقات مع كيان العدو يقع ضمن التبعية للدول الغربية والمجتمع الدولي، ولم يصدر عن قرار سيادي، إلا نادرا. وإضافة الى الضغوطات الرسمية التي تمارسها الدول الغربية على بعض الأنظمة العربية والإسلامية من أجل التطبيع، تضغط المنظمات غير الحكومية الغربية على المنظمات التي تمولّها من أجل التطبيع المجتمعي والثقافي، تمهيدا للتطبيع الرسمي.
لم تعد تكتفي الدوائر الغربية المختلفة بـ"الحيادية" إزاء الصراع، أو بالمواقف "الباردة" و"العقلانية"، التي انتهجتها معظم الدول العربية والإسلامية، بل تريد موقفا مؤيدا لوجود كيان العدو والسعي لاندماجه في المنطقة، أنظمة وشعوبا، ضمن مشروع واسع تسيطر عليه الولايات المتحدة والكيان الصهيوني. لم ينتج عن اتفاقيات أوسلو (إقامة السلطة الفلسطينية مع اعتراف هذه الأخيرة بالكيان الصهيوني)، واتفاقية وادي عربة (الأردن) وما سبقهما (اتفاقيات كامب ديفيد، مصر) توسّع العلاقات التطبيعية بسبب انتفاضة الشعب الفلسطيني (2000) ضد الإرهاب الصهيوني والرفض الجماهيري العربي، اللذين أوقفا معظم حالات التقارب مع العدو في حينها وأٌقفل عدد من البعثات التجارية الصهيونية في الدول العربية التي كانت قد استجابت لمساعي "السلام" الأميركي.
لكن عادت الولايات المتحدة مجددا بعد الحروب الداخلية والأزمات التي سبّبتها في المنطقة، بصياغة "اتفاقيات أبراهام" التي لم تكن علاقات تطبيعية فحسب بل تحالفات سياسية واقتصادية وأمنية وعسكرية بين الدول المطبّعة حديثا (خاصة الإمارات العربية، البحرين، المغرب)، وموجّهة ضد إيران ومحور المقاومة بشكل عام، الى جانب إعادة العلاقات "الطبيعية" بين تركيا والكيان الصهيوني، بعد الأزمة التي مرّت بها هذه العلاقات، بسبب مجزرة "مافي مرمرة" (31 مايو/أيار 2010).
لكن الاعتراف بالكيان الصهيوني وإقامة علاقات معه هو عدوان على الشعب الفلسطيني لأنه يعني أولا إنكار حق الشعب الفلسطيني بأرضه (فلسطين كلها)، والتنكّر لتاريخه ولدماء شهدائه وعذابات أسراه وجرحاه. وثانيا، هو إنكار حق اللاجئين بالعودة الى ديارهم ووطنهم فلسطين، والرضوخ بالكامل الى ما يريده الكيان الصهيوني في هذا الخصوص.
فلذلك، ابتدعوا مصطلح "إيجاد حلّ عادل لمسألة اللاجئين" الذي يعني كل شيء إلا العودة الى فلسطين، أي التوطين أو الترحيل أو التجنيس من قبل دول عربية أو غربية، وأحيانا دفع بعض التعويضات، وتقليص عددهم الى ما لا نهاية. وحتى ما يسمى بالعودة الى "دولة فلسطين" غير مرغوب به من قبل الصهاينة الذين يحلمون بأرض فلسطين كلها، دون سكانها الحاليين. من هذا المنطلق، التطبيع هو عدوان على الشعب الفلسطيني وحقوقه المشروعة بأرضه وبعودته الى دياره التي هجّر منها، وبسيادته عليها.
التطبيع مع كيان العدو الصهيوني هو عدوان على شعوب الأمة لأنه يعني الموافقة الضمنية على تهويد المقدسات، لا سيما المسجد الأقصى والحرم الإبراهيمي وغيرها من المساجد في يافا واللد مثلا، والمقدسات المسيحية، حيث أن الاحتجاجات الرسمية الصادرة من الدول المطبعّة وغير المطبّعة لا توقف الاعتداء اليومي والزاحف على المقدسات الموجودة في فلسطين. قد تؤخر هذه الاحتجاجات بعض الإجراءات التهويدية، لكن لا تضع حدا لها، وخاصة أن الدول الغربية، والولايات المتحدة بالتحديد، لا تمانع التهويد.
التطبيع مع الكيان الصهيوني هو عدوان على الشعب الفلسطيني وشعوب الأمة لأنه ينكر موقع فلسطين في قلبها، ولأن وجوده، الذي ترافق مع المجازر والتشريد، يعني سيطرة القوة المادية (السلاح والمال) على القيم الإنسانية وعلى وحدة شعوب الأمة وتطلعاتها الى العيش بسلام على أراضيها.
التطبيع مع كيان العدو هو عدوان على كافة فئات الشعب الفلسطيني المقاوم، لأنه يعني الموافقة على تهويد المدن الفلسطينية بالداخل المحتل عام 1948 وعلى تهجير أهل النقب من قراهم، والموافقة على تمدّد المستوطنات الصهيونية في الضفة الغربية وما يصحبها من إعدام لشبابها وأطفالها، واعتقال وهدم بيوت، والموافقة على إعدام الأسرى وسرقة جثامين الشهداء.
التطبيع مع كيان العدو وإبرام اتفاقيات اقتصادية وأمنية معه يمثل دعما مباشرا لكل الأعمال الإرهابية والدموية الموجّهة ضد الشعب الفلسطيني، ولحصار أهل قطاع غزة. وأخيرا، التطبيع مع كيان العدو، أو حتى الوقوف بـ"الحياد" اتجاهه، هو بمثابة طعن الشعب الفلسطيني والمشاركة في المشروع الصهيوني الغربي الذي يسعى لإزالته عن الوجود، كشعب يضحي بشبابه من أجل إنقاذ الأمة من ضياعها.
لمواجهة التطبيع، على شعوب الأمة أن تتخلّص من التبعية للغرب الأميركي وأن ترفض إملاءاته وأن تتحصّن، فكريا وسياسيا واقتصاديا، ضد النفوذ الغربي والصهيوني في بلادها. قد تفيد حملات المقاطعة (BDS) في دول العالم لأنها تسلط الضوء على جرائم الاحتلال في فلسطين المحتلة وتسعى لمحاصرته، لكن على شعوب الأمة السعي أيضا الى ربط مسألة التطبيع والاعتراف بكيان العدو بوضعها الداخلي الذي يعني رفض التبعية للنفوذ الغربي واستعادة استقلالها، لأن التطبيع مع كيان العدو هو تكريس للتبعية وفقدان الاستقلال.