يُكثر قادة إسرائيل، في الأسابيع والأيام الأخيرة خاصة، من تهديداتهم بشن حروب على عدة جبهات. ويعكس المشهد تقسيم أدوار؛ فذاك يهدد سورية، وآخر يحذر منها ليهدد غزة، وآخرون يهددون إيران. وعلى الرغم من أنه لا يمكن تجاهل هذه التهديدات وإسقاطها من حسابات التطبيق، إلا أن بعض التجارب علّمت أن اسرائيل لا تقرع طبول الحرب في اتجاه الخارج فقط، بل أيضا في اتجاه شارعها، بهدف إسكاته لدى تطبيق مخططات حكومية، خاصة الاقتصادية منها.
لا يمر يوم على مدى أشهر طويلة، وبشكل خاص في الأيام الأخيرة، إلا نسمع أكثر من مسؤول إسرائيلي، إن كان سياسيا أو عسكريا، يطلق التهديدات في اتجاه ما. والانطباع الناشئ هو أن تقسيم الأدوار بات مفضوحا أكثر من ذي قبل؛ فصحيح أننا نشهد منذ سنوات "تضارب" تصريحات بشأن عدوان محتمل على إيران، ازدات حدة في الأشهر الأخيرة، إلا أن هذا المشهد بات مؤخرا متعددا على جبهات أخرى.
فخلال الأسبوع الحالي، سمعنا نتنياهو لا يستبعد شن عدوان على سورية، تحت ذريعة الأسلحة الكيماوية المزعومة. وفي المقابل، سارع رئيس أركان الحرب، بيني غانتس، في كلمة له أمام اللجنة البرلمانية للشؤون الأمنية والخارجية، إلى التحذير من أن حربا على سورية سيكون نطاقها أوسع مما ستخطط له إسرائيل. ولكن غانتس ذاته، وفي نفس الساعة والمكان، هدّد بشن حرب على قطاع غزة، لدرجة القول إنه لا يمكن أن يرى غير هذه الإمكانية، في الوقت الذي لا يتحدث فيه ساسة اسرائيل عن سيناريو حرب كهذه. وفي المقابل، سمعنا رئيس حزب "كديما" شاؤول موفاز، الذي عاد قبل أقل من أسبوعين إلى صفوف المعارضة، يزعم أنه غادر الحكومة لأنه رفض مغامرة في إيران. وقد يكون موفاز كعادته مزيفا للحقائق، وماضيه العسكري يثبت كم هو تواق للحروب وإراقة الدماء، ولكن هذا يكشف مدى التلاعب بسيناريوهات الحرب في أروقة الحكم الإسرائيلي.
لنترك كل هذا جانبا، ونتجه إلى خبر لم يتعد بضع جُمَلٍ نشرته صحيفة "معاريف" الإسرائيلية هذا الأسبوع، ومفاده أن إقبال الجمهور في إسرائيل على طلب الحصول على كمامات واقية من الغازات السامة ارتفعت وتيرته في الأيام الأخيرة بنسبة 70 %. وهذه الكمامات تم توزيعها على السكان لأول مرّة في العام 1990 قبيل الحرب على العراق. ولكن منذ ذلك الزمن، باتت الكمامات الواقية مشهدا من مشاهد الرعب التي تختلقها سدة الحكم، تارة تجاه الخارج، في إطار الظهور في موقع "الضحية"، وتارة تجاه الشارع الإسرائيلي من أجل رفع مستوى الخوف لديه، وحجب النظر عن كافة القضايا التي تقلقه على مستوى الحياة اليومية، فلا ينشغل إلا بمسببات خوفه من "حرب إبادة قادمة لا محالة"، وما عليه إلا أن يبقى هادئا، ويتقبل سياسة الحكومة أيا كانت.
فتصعيد الحديث عن الحروب والكمامات الواقية، تزامن مع إجراءات تقشفية حادة أعلنها نتنياهو هذا الأسبوع، وستقرها حكومته يوم الإثنين المقبل، في صلبها رفع ضرائب، المتضرر منها أساسا الشرائح الوسطى والفقيرة، إلى جانب تقليص عام في الموازنة العامة لهذا العام، باستثناء وزارة الحرب وجيشها، بزعم تغطية العجز الناشئ في الموازنة بسبب انعكاسات الأزمات الاقتصادية في أوروبا وأميركا على الاقتصاد الإسرائيلي.
وفي أوضاع عادية، كان من المفترض أن نرى حملة احتجاجات شعبية واسعة ضد الإجراءات الاقتصادية، فحملة الاحتجاجات التي استؤنفت في الأسابيع الأخيرة، لم تنجح في استنهاض الشارع بالشكل الذي كان قبل عام، ومظاهرات مئات الآلاف التي شهدناها لأسابيع قليلة قبل عام تحولت الى مظاهرات بضعة آلاف، وحتى بضع مئات في هذه الأيام. وهذه نتيجة طبيعية، لشارع خاضع لآلة الترهيب الحكومية من العدو الخارجي؛ فمن يفكر "بحرب الإبادة" التي حذرته منها حكومته، لن يتفرغ للاحتجاج ضد الحكومة التي تسعى "لحمايته وإبقائه على قيد الحياة". وهذا نهج كل حكومات إسرائيل، وليس هذه الحكومة وحدها. وعلى أي حال، وكما ذكر بداية، فإنه لا يمكن الاستخفاف بالتهديدات الإسرائيلية بشن حرب ما أو أكثر.
المصدر: صحيفة الغد الأردنية