وكالة القدس للأنباء - خاص
يحيي الشعب الفلسطيني هذه الأيام الذكرى ال68 للنكبة التي حلت به في الخامس عشر من أيار/ مايو من العام 1948، في ظروف دولية وإقليمية وعربية، وفلسطينية فيها من التعقيدات والإضطرابات والتحولات الدراماتيكية ما لم تشهده في سنواتها السابقة...
فهذه الذكرى، ليست تاريخاً تقليدياً في "أجندة المناسبات" الإعتيادية، ولا رقماً مجرداً من المضامين والمعاني، ولا حدثاً عابراً يمر مرور الكرام، كالكثير من المناسبات التي بات إحياؤها شكلاً من "الفولكلور" تنتهي مفاعيلها مع نهاية آخر كلمة في مهرجان، أو تظاهرة أو مسيرة، أو أغنية في حفل فني، أو آخر مشهد من فيلم روائي أو وثائقي... أو آخر قصيدة في أمسية شعرية...
إن ذكرى الخامس عشر من أيار هي اختصار لتاريخ قضية الشعب الفلسطيني وصراعه المتواصل على امتداد قرن كامل مع القوى الإستعمارية (الأوروبية – الأمريكية) التي منحت الحركة الصهيونية "وعد بلفور" في الثاني من تشرين الثاني 1917، وسهَّلت إقامة كيانها العدواني العنصري على أرض فلسطين، كقاعدة إستعمارية متقدمة وسط الوطن العربي، ومدته بكل عناصر الدعم والقوة المادية والمعنوية، والغطاء الدولي، ليؤدي وظيفته في منع قيام وحدة أو اتحاد بين البلدان العربية، من جهة، وإبقائها مجزأة ضعيفة، متخلفة، معتمدة ومرتبطة بالغرب، وتابعة له، من جهة أخرى، وذلك حفاظاً على مصالحها في المنطقة، التي مزقتها إرباً إتفاقية سايكس- بيكو البريطانية – الفرنسية...
فأين أصبحت القضية الفلسطينية، بعد نحو قرن من الصراع... و68 عاماً من النكبة... و51 عاماً من انطلاق المقاومة الفلسطينية المعاصرة، و25 عاماً من المفاوضات الفلسطينية – "الإسرائيلية"... و23 عاماً من التوقيع على اتفاق "أوسلو"؟..
إن القضية الفلسطينية تمر في هذه الأيام بواحدة من أصعب وأدق وأخطر مراحلها، بسبب التطورات الدامية التي تحيط بالمنطقة منذ نحو خمس سنوات، وما خلفته من نتائج كارثية على كل الصعد والمستويات، انعكست على البلدان المشتعلة، وعلى جامعتهم العربية، أيضاً.
وبدل القضية العربية المركزية التي أجمع عليها "العرب" ردحاً طويلاً من الزمن، وإن بشكل لفظي، صار لكل بلد قضيته، وبدل النكبة واللجوء، التي كانت خاصية للشعب الفلسطيني ومنذ العام 48، صار لكل بلد عربي نكبته، ولاجئوه... وصارت المؤتمرات تعقد برعايات دولية وغربية وعربية لحل هذه الأزمة أو تلك، من جنيف إلى فيينا السورية إلى الكويت اليمنية، إلى الرباط وتونس الليبية وغيرها من العواصم العربية والأجنبية.
وهذه الأزمات المتنقلة والحروب الدامية، التي استحوذت على اهتمام "جامعة الدول العربية"، وقادتها الجدد الذين يطبعون سياساتها بمواقفهم وتوجهاتهم وأموالهم، دفعت بالقضية الفلسطينية إلى الخلف، وما زاد الوضع تعقيدا وتأزماً حالة الإصطفاف التي فرزت المنطقة إلى محورين متواجهين: الأول، وضم ما يسمى بدول ـ"الإعتدال" العربية، وهو يرفع راية تسوية ما باتوا يسمونه "النزاع الفلسطيني – الإسرائيلي" عبر نهج المفاوضات، و"تبادل الأراضي" وإيجاد "حل عادل متفق عليه لقضية اللاجئين" وفتح نوافذ وأبواب "التطبيع" الكامل مع العدو الصهيوني... وهذا المحور مدعوم من قبل الولايات المتحدة الأمريكية والدول الغربية وتركيا...
اما المحور الثاني فيرفع راية المقاومة وهو مدعوم من الجمهورية الإسلامية الإيرانية التي استحوذت على عداء دول "الإعتدال" العربية بزعم سعيها لامتلاك السلاح النووي، خاصة بعد إنجاز الملف النووي الإيراني مع مجموعة (5+1) الدولية...
إن تراجع الإهتمام العربي الرسمي بالقضية الفلسطينية، وتقديم الصراع مع إيران وقوى المقاومة المدعومة منها، باعتباره من أولويات اهتماماتها، أفسح في المجال أمام هرولة بعض المسؤولين العرب لبدء مرحلة تطبيع العلاقات مع العدو الصهيوني، بلقاءات علنية هذه المرة، وهو الأمر الذي سعت الإدارة الأمريكية لتحقيقه منذ وقت طويل... وهذا التراجع أعطى الضوء الأخضر لحكومة بنيامين نتنياهو لتسريع وتيرة السيطرة على مساحات جديدة من الأرض في الضفة المحتلة، وإقرار المزيد من مشاريع الإستيطان في طول الضفة وعرضها بما فيها القدس، والتعجيل بمخططات التهويد والصهينة التي وصلت إلى المسجد الأقصى المبارك... كل ذلك بالتزامن مع ارتفاع منسوب العنصرية إلى حدوده الفصوى داخل المناطق المحتلة عام 48، والتضييق عليهم، وتدمير بيوتهم وقراهم بحجة البناء بدون تراخيص، كل ذلك بالتوازي مع دعوات "قتل العرب" وترحيلهم إلى غزة وسوريا!..
ولا شك أن حكومة نتنياهو تحاول استثمار الوضع العربي الراهن، وانشغال الإدارة الأمريكية بانتخاباتها الرئاسية، وتخبط الإتحاد الأوروبي بمشاكله الداخلية، واستمرار حالة الصراع المفتوح بين جناحي السلطة الفلسطينية في رام الله وغزة من أجل إيجاد وقائع جديدة على الأرض.
وفي هذا السياق جاء إعلان نتنياهو ضم الجولان السوري المحتل، ودعوة وزيرة "العدل" في الحكومة "الإسرائيلية" إيليت شاكيد لإخضاع الضفة المحتلة للقوانين والتشريعات "الإسرائيلية"، وهو ما يعني ضم الضفة إلى الكيان.. حيث يتم إخضاع كل فلسطين للقوانين والتشريعات "الإسرائيلية" العنصرية الفاشية.
وقد وصفت صحيفة (معاريف - 1/5/2016) هذا القانون بأنه «قنبلة سياسية»، وقالت إنه سيقدم في الكنيست في الأسابيع المقبلة، واعتبرته «الأكبر منذ احتلال الضفة في العام 1967». وتوقعت الصحيفة «الإسرائيلية» أن يحظى القانون بأغلبية الأعضاء عند التصويت عليه!
ويأتي الإعلان عن النية بتقديم هذا القانون، بعد أيام من رفض نتنياهو «المبادرة الفرنسية» رسمياً، والتي تقوم على احترام «حل الدولتين»، ما يشير إلى التوجهات الرسمية والحقيقية التي تخطط لها حكومة نتنياهو.
هكذا، بعد ربع قرن من المفاوضات الفلسطينية – "الإسرائيلية"، اتضح للمفاوضين الفلسطينيين أنفسهم أنها "عبثية"، وأنها قدمت لحكومات العدو المتعاقبة غطاء "فلسطينيا"، عربياً ودولياً لتنفيذ أوسع مشاريع الإستيطان والتهويد، على مدى نحو ربع قرن، حوَّلت الضفة المحتلة إلى كيان صهيوني موازٍ، يسكنه نحو 700 ألف مستوطن تسيطر عليه عصابات مدججة بالأسلحة الحديثة على شاكلة "تدفيع الثمن"، تحولت معها المدن والقرى الفلسطينية إلى معازل مغلقة تتحكم قوات العدو بمعابرها ومداخلها وطرقاتها الإلتفافية، وبحياة الفلسطينيين فيها، كما حولت السلطة وأجهزتها الأمنية إلى حراس للإحتلال الجاثم على صدر مخيمات ومدن وقرى الضفة.
وبات الحديث عن "حل الدولتين" أشبه بالسراب... بعد إعلان الإدارة الأمريكية فشل مساعيها التي أدارها وزير خارجيتها جون كيري على مدى سنتين متواصلتين في فتح ولو كوة في جدار المفاوضات العبثية، تقدم لسلطة رام الله ولو جائزة "ترضية" عن كل ما قدمته من تنازلات في مسيرة المفاوضات، وتعويضاً عن خدماتها الكبيرة للإحتلال وبخاصة الأمنية منها، التي جعلت الوجود "الإسرائيلي" في الضفة أرخص إحتلال في التاريخ، حيث شبهه البعض بـ"احتلال سبع نجوم".
إن المشهد الراهن لا يخفي حالة القلق والإضطراب التي يعيشها الكيان، خاصة على الجبهتين الشمالية مع المقاومة الإسلامية في لبنان والجنوبية مع المقاومة الفلسطينية في القطاع المحاصر، وفي الداخل المحتل (على المساحة الكلية لفلسطين) بمواجهة "إنتفاضة القدس" التي دخلت شهرها الثامن، والتي يرجح قادة العدو استمرارها وتصاعدها في المقبل من الأيام... وقد تجاوزت عملياتها الضفة المحتلة إلى الداخل المحتل عام 48، الأمر الذي عمَّق أزمة الحكومة التي أعلنت فشلها وعجز أجهزتها عن وضع حد لعمليات الإنتفاضة رغم ادعاءات البعض عن تراجع في العمليات الفدائية...
فاندلاع "إنتفاضة القدس" في تشرين الأول من العام الماضي واستمرارها كل هذا الوقت، وشمولها كل الأرض الفلسطينية، واستعصائها على إجراءات العدو، حمل رسائل واضحة بعدة اتجاهات، مفادها ان القضية الفلسطينية تبقى مركز الصراع ووجهته الحقيقية، ولن يستطيع كائناً من كان فرداً أو جماعة من حرفها عن مسارها وأخذها باتجاه معاكس لمسارها الطبيعي... وهي القضية التي يجتمع حولها الشعب الفلسطيني والأمتين العربية والإسلامية وكل الأحرار في العالم... وان الشعب الفلسطيني ولاد الثورات والإنتفاضات، قادر على إبداع أساليب وأشكال ووسائل المقاومة من السكين والمقص إلى العبوة والقناصة و"الكارلو"... الخ.
وبعد، في الذكرى الستين للنكبة، سال أحد الصحفيين رئيس الكيان الصهيوني الأسبق شمعون بيريز، هل ستبقى "إسرائيل" 60 عاماُ أخرى؟.. فرد عليه، إسالني هل ستبقى 10 سنوات مقبلة!..
إنه الرعب "الإسرائيلي" من المستقبل، الذي دفع بعشرات آلاف المستوطنين لترك الكيان في العام 2006 بعدما وصلت صواريخ المقاومة ولأول مرة في تاريخ الصراع إلى "ما بعد بعد حيفا"... وهو الرعب الذي أجبر نحو مليون صهيوني في تل أبيب للإختباء خلف الأبواب المغلقة على إثر عملية نشأت ملحم البطولية في أبرز شوارع تل أبيب، أو إحدى البقرات الصهيونية المقدسة!.. إنه الخوف من المستقبل الذي أجبر الآلاف من المستوطنين للإصطفاف بطوابير أمام السفارات الغربية، لاستعادة جوازات السفر التي تخولهم ترك الكيان في الوقت المناسب – أي الوقت الذي تمطر فيه سماء فلسطين الصواريخ الآتية من الشمال ومن الجنوب.
في المقابل، يؤكد الشعب الفلسطيني تشبثه بالأرض، واستعداده لتقديم المزيد من التضحيات بمواجهة مشاريع الإستيطان ومخططات التهويد والصهينة، والدفاع عن المقدسات وفي مقدمتها المسجد الأقصى المبارك الذي يتعرض للتدمير الممنهج، ولمخطط التقسيم المكاني والزماني... ويعمل على تجديد حياة مقاومته بانتفاضة القدس المستمرة منذ نحو ثمانية أشهر، قدم خلالها الجيل الفلسطيني الجديد، من فتيان وفتيات المدارس، نماذج جهادية إستشهادية، لم تعرف حركات التحرر الوطني والمقاومات مثيلا لها... أدخلت القلق إلى نفوس قادة العدو السياسيين والأمنيين والعسكريين، الذين أعلنوا هزيمتهم أمام هؤلاء الفتية... وجعلت الرعب سمة عامة تحكم حياة قطعان المستوطنين الذين باتت حركتهم مضطربة مهجوسة بالطعن والدهس وبالعبوات الناسفة اليدوية الصنع.
في الذكرى الثامنة والستين للنكبة، تبقى المقاومة طريق التحرير والعودة.