في الأسبوع الأول من الشهر الماضي (كانون الأول/ديسمبر من العام 2014، أفاق سكان قرية العراقيب النقبية الفلسطينية على أصوات جرارات وجرافات وسيارات وجنود، ليفاجأوا بأنهم أكثر منهم في العدد والعتاد، وبدأوا في هدم بيوتهم البدائية المبنية من الصفيح والزينكو والشعر، وحتى من إطارات السيارات، بعد أن أرعبوا الجميع بمن فيهم الأطفال والعجزة، وأجبروهم على الابتعاد عن المكان، كما وأجبروا مواشيهم التي هي مصدر أرزاقهم ومعيشتهم على التشتت والتراكض والتقافز والخوف، وتابعت عملها في الهدم والجرف ومحاولة محو الآثار الإنسانية والحيوانية، لقرية كانت تضج بالحياة، وتضفي على الصحراء القا مفعما بأشواق وآمال ورغبات العيش الكريم، والحياة المستورة؛ على الرغم من العقبات والعراقيل وشظف العيش وبدائيته، ومضايقة السلطات الصهيونية المستمرة ، وعدم وجود أي أثر لخدمات دولة من المفترض أنهم من مواطنيها، لا في الصحة ولا في التعليم ولا في الكهرباء أو الماء، او أدنى أي مرفق صحي أو في النقل أو الطرق، ليتولى بعدها قسم من السكان إعادة البناء من جديد. فما عدد المرات التي تم فيها هدم هذه القرية التي اسمها (العراقيب)؟
كان الهدم الأخير هو التاسع والسبعين، خلال أقل من ثلاث سنوات، بحجة أن القرية مقامة على أملاك خاصة بالدولة! علما أن الأرض ما هي إلا من أملاك بدو النقب الفلسطينية الذين استمروا في البقاء فيها بعد نكبة العام 1948. وطرد الآلاف من بيوتهم، علما أنهم لم يسجلوا تلك الأراضي، نظرا لتقاليد وأعراف القبائل التي تقوم على الاعتراف بخصوصيات ملكيات القبائل الأخرى، ونظرا لظروف تنقلاتهم الدائمة مع قطعانهم من الماشية، وبسبب عدم رغبتهم التجنيد قديما في الجيش العثماني، وعدم قدرتهم على دفع الضرائب، لتستمر الأمور على ما هي عليه في زمن الاستعمار البريطاني، إلى أن غزت «قطعان الصهاينة» البلاد، وأخذت تنافسهم في ملكية الأرض، بل وأخذت تدعي أنه وبسبب عدم وجود أوراق لطابو الأرض بين أيديهم، فإن الأرض هي من «أملاك الدولة»! ودأبت هذه «الدولة» في مطاردة أصحاب الأرض الأصليين، واقتلاعهم من أماكن وجودهم، ومن مراعيهم بين فترة وأخرى، ولم تكلف هذه «الدولة» نفسها إقامة أي مظهر حياتي خدمة للناس، يكفيهم عوزا أو حاجة ما، بل وتجرأت ولا زالت تتجرأ بالقول بأن بدو النقب ما هم إلا غزاة للأراضي ومغتصبون لها!.
برافر - النويعمة!
لذا فإن طمع «الدولة» وصل إلى وضع مخطط برافر بيغن للاستيلاء على 800 ألف دونم من أراضي النقب كله في العام 2013، ما دفع بالسكان إلى الاحتجاج، وتسيير التظاهرات وكتابة العرائض، وصولا إلى الاعتصام في مناطق معينة.
لم تكتف «الدولة» بالإعلان عن نيتها مصادرة الأراضي، بل إنها أرسلت قواتها بعد مناقشة الأمر في مجلس النواب الإسرائيلي في الكنيست بهدف هدم عشرات القرى البدوية في مناطق النقب المختلفة غير المعترف بها، وتشريد سكانها؛ أو محاولة دفعهم للتجمع في ثلاث تجمعات قروية بالقرب من منطقة أريحا، وفي بلدة النويعمة بالذات. وهذا الأمر إذا ما تم يحرمهم من أراضيهم، ويحرم مواشيهم من التنقل للوصول إلى الكلأ والماء، تماما كما حصل مع سكان القرى السبع البدوية غير المعترف بها في سبعينات القرن الماضي، والتي تفيد تقارير عدة بأنها من أكثر التجمعات فقرا، وأقلها في الخدمات والتنمية.
عندما تأكد الفلسطينيون من توجه القوات الصهيونية لهدم بيوت عشرات القرى، توجهت تجمعات حاشدة وكتل جماهيرية من جميع أنحاء فلسطين باتجاه تلك القرى، وأخذت تتظاهر وتواجه القوات، حتى بصدورها العارية، واستمرت لأيام عدة، ما اجبر السلطات تأجيل تنفيذ الأوامر إلى وقت وفرص أخرى، خصوصا وأن الأحزاب والكتل الصهيونية في الكنيست، لم تكن كلها متحمسة لتطبيق خطة برافر بيغن في تلك المرحلة، فتم التوقف آنيا ومرحليا عن تنفيذها، وتم سحب القوات من المنطقة. إلا أن السلطات أخذت بعدها بتطبيق الخطة بالمفرق، بدلا من تطبيقها بالجملة، وذلك باتباع ما يلي:
ـ اللجوء إلى هدم بعض القرى هناك نحو 40 قرية غير معترف بها وتشريد سكانها، أو دفعهم للوصول إلى أماكن محددة من قبلها، كما في العراقيب وحورة وبتير وغيرها من قرى الأغوار، او الواقعة على طريق القدس - أريحا.
ـ هدم بيوت بعض التجمعات البدوية في الحزام المحيط بمدينة االقدس، وهي من التجمعات التي أقيمت بعد نكبتي العام 1948 والعام 1967 وتنتمي في الأساس إلى القبائل البدوية الأصلية في النقب، وأجبرت بقوة الطرد إلى إقامة تجمعات سكنية في المحيط الصحراوي الذي يحيط بالقدس، وعلى الطريق الواصل بين أريحا والقدس بنحو 30 كيلومترا كقبائل الجهالين وشقيرات والكعابنة والرشايدة والممالحة وغيرها.
هذا ويعاني سكان تجمع خان الأحمر أغلبهم من قبيلة الجهالين من المضايقات ونسف البيوت لإجبارهم على الرحيل بحجة البناء غير المرخص، وهذا التجمع يقع على طريق القدس أريحا شرق مستعمرة «معاليه أدوميم» أكبر المستعمرات الصهيونية في الضفة، ويبلغ عدد سكانها نحو 40 ألفا. كما أن تجمع جبل البابا البدوي يعاني سكانه مثل ما يعانيه سكان الخان الأحمر. وتريد إسرائيل من خطة «تنظيف» محيط القدس ومحيط الطريق الواصل بينها وبين أريحا إلى بناء مستعمرات جديدة، وإلى قطع التواصل بين شمال الضفة الغربية وجنوبها، وذلك لتعطيل قيام دولة فلسطينية متواصلة في أجزائها ومناطقها. لذا فإن خطة برافر تحولت من التطبيق بالجملة إلى التطبيق بالمفرق .. وهكذا.