رداً على عملية الاختطاف المزعومة لثلاثة شبان إسرائيليين، كان الانتقام عنواناً لتصرفات نتنياهو. وفي حين أشار مباشرة بأصابع الاتهام إلى حركة «حماس»، إلا أنه أعلن أيضاً أن السلطة الفلسطينية تتحمل المسؤولية كاملة. وسرعان ما أطلق نتنياهو عملية «حارس الأخ»، وهو اسم متوقع لهجوم كامل على الشعب الفلسطيني بأسره في الأراضي المحتلة. وتعرّض مئات من قادة وأعضاء «حماس» للاعتقال ويخضعون الآن للاحتجاز من دون اتهامات. وقد تم إغلاق مناطق كاملة، في عقوبة جماعية غير قانونية. وكثفت حكومة الاحتلال أيضاً نقاط التفتيش. وتجري عمليات تفتيش المنازل من بيت إلى آخر في بعض المدن، إضافة إلى هدم المساكن وتشريد الأسر. وقد بات الخوف والغضب سَيِّدَي الموقف.
وبكل المقاييس، فإن عملية الاختطاف - وأفترض أن ذلك هو ما حدث - كانت عملاً غير مسؤول، لأن مهاجمة المدنيين، الذين تصادف وجودهم في المكان والزمان الخاطئين، أمر غير مقبول على الإطلاق، ولا يمكن بحال من الأحوال تبرير ذلك العمل بأنه أخلاقي أو مسؤول أو من أساليب المقاومة.
ولا يمكن كذلك تبرير انتهاكات إسرائيل الآثمة للقانون الدولي أو ازدرائها الواضح لحقوق الإنسان. لكن لأن الرد الإسرائيلي كان متوقعاً بشكل كبير، وجب الحكم على من نفّذ الاختطاف بعدم المسؤولية. ولا بد من إدانة الجناة ليس فقط بسبب استخفافهم بأرواح الشبان الثلاثة، ولكن أيضاً بسبب المعاناة التي سببوها للشعب الفلسطيني.
لكنّ ثمة أمراً آخر يجعل نتنياهو يتحمل المسؤولية عن هذا الرعب؛ ذلك أنه هو من أرسى، بطريقة فاسدة، منطقاً يلهم الخاطفين. فلطالما مارس الإسرائيليون عمليات تبادل للأسرى، ومع وجود آلاف الفلسطينيين في السجون الإسرائيلية، كثير منهم محتجز بلا اتهام، غالباً ما تعاملهم قوات الاحتلال على أنهم أدوات للمقايضة. وقبل فترة ليست طويلة، قدم نتنياهو لـ«حماس» أكثر من ألف أسير في مقابل جندي إسرائيلي مختطف. وبينما يتابع المجتمع الفلسطيني عن كثب إضراباً عن الطعام نفذه منذ أسابيع مئة معتقل إداري سجنوا فترة طويلة من دون اتهامات أو محاكمة، من غير المستبعد أن يكون البعض افترض أن الوسيلة لإنهاء معاناة هؤلاء المعتقلين هي خلق ظروف ملائمة لعملية تبادل أسرى أخرى.
وبالرغم من ان نتنياهو أكد أن «حماس» هي المسؤولة عن عملية الاختطاف، لكن ما من دليل على هذا الاتهام. بيد أن المجتمع الإسرائيلي الكاره لحركة «حماس» لا يحتاج إلى دليل لتصديق ذلك. وسواء كانت «حماس» مذنبة أم لا، فقد تصرفت بشكل سيئ قبل وبعد عملية الاختطاف. وبرغم موافقتها على اتفاق المصالحة مع السلطة الفلسطينية، إلا أن قادتها واصلوا الإدلاء بتصريحات غير مسؤولة تؤكد حقهم في «المقاومة المسلحة». وأتذكر مقولة للشاعر الراحل توفيق زياد، الذي قال ذات مرة «ربما أن لديك الحق، ولكن عندما تستخدمه بشكل سيئ، فإنك تؤدي إلى مصادرته». ومنذ عملية الاختطاف، بدلاً من التصرف كشركاء مسؤولين في حكومة الوحدة، تعاملت «حماس» بحذر. ولم تشجب «عملية الاختطاف»، وبدلاً من ذلك، صرح مسؤول رفيع المستوى في الحركة، «بأنهم يعرفون حقيقة من يقف وراء عملية الاختطاف، ولكن هناك فصلاً في المهام بين الجناحين السياسي والعسكري للحركة، وأمر السياسيون العسكريين بإيجاد حل لملف الأسرى، وللرجال على الأرض الحرية في اختيار التوقيت والمكان وتفاصيل العملية».
وجاءت عملية الاختطاف على طبق من ذهب لنتنياهو، الذي كان يتعرض لضغوط دولية متزايدة بسبب توسعه الاستيطاني المستمر بشكل غير قانوني ومسؤوليته عن انهيار محادثات السلام. كما نبذت الولايات المتحدة وأوروبا موقفه الرافض للوحدة الفلسطينية، بينما كان يتعرض لانتقادات في الداخل بسبب عادات إنفاقه المثيرة للجدل، والهزيمة المحرجة لمرشحه المفضل في المنافسة الرئاسية الأخيرة.
غير أن عملية الاختطاف كانت له بمثابة طوق نجاة. وعاد يلعب بورقة الضحية ومواجهة الأعداء التي يحبها ويجيدها. وقد منح الخاطفون رئيس الوزراء فرصة ثانية لا يستحقها. ولم يعد «عقبة في طريق السلام»، وإنما «مدافع عن ضحايا شعبه».
في هذه الأثناء، تأثرت حكومة الوحدة الفلسطينية أيضاً بشكل كبير بسبب هذه الأحداث. ومن الواضح أن «أبو مازن» لا ناقة له ولا جمل في هذه العملية، لكنه يحاول إخبار الإسرائيليين العاديين بذلك. ومن جهة أخرى، يحاول التأكيد للفلسطينيين أن طريقته في السعي من أجل السلام عبر المفاوضات هي الطريق الصحيح، بينما يرون زيادة أعداد المستوطنات الجديدة، ودمار مجتمعاتهم تحت وطأة الحصار، وموت معتقليهم وتتويج نتنياهو.
وعلاوة على ذلك، فإن المحتجزين المضربين عن الطعام أيضاً هم ضحايا لعملية الاختطاف. وهم غير مدانين في أي جرم، ولم يتم اتهامهم بأي ذنب. لكن مأساتهم أصبحت الآن طيّ النسيان بعد أن حصل حقهم في التحرر من الاعتقال غير القانوني على تأييد في داخل إسرائيل والدول الغربية.
والدرس الوحيد الذي ينبغي أن يكون واضحاً لجميع الأطراف، وإن لم يتعلمه أحد أبداً، هو أن مزيدا من المقاومة العنيفة لن ينهي الاحتلال، كما أن تصعيد القمع العنيف لن يقضي أيضاً على المقاومة. والسبيل الوحيد للمضي قدماً والخروج من هذا المأزق هو مزيج من المفاوضات والمقاومة غير العنيفة. لكن في الوقت الراهن، وفي خضم هذه المأساة المتفجرة، لا يبدو أن أحداً سينصت.