يمضي الكيان الإسرائيلي فيما يعتقده مسوغ وجوده الاستيطاني وروايته الصهيونية لاستلاب الأرض والتاريخ معاً، عبر «تلبس» مطلب الاعتراف «بيهوديته» رداء «الشرعية القانونية»، سيجد حضوره في «الدولة القومية للشعب اليهودي» لقوننة الطابع والأغلبية اليهودية.
ويسحب ذلك حراكاً دبلوماسياً نشيطاً لإضفاء الصفة الدولية على «المطلب»، وشرطاً مُلحاً لبلوغ اتفاق نهائي للتسوية السلمية، تم تبنيه أمريكياً، بدون أن يجد نفاذه، حتى الآن، أمام رفض فلسطيني عربي لقبول ما يعنيه ضمناً إسقاط حق عودة اللاجئين الفلسطينيين إلى ديارهم وأراضيهم، وحرمان المواطنين الفلسطينيين في فلسطين المحتلة عام 1948 من حقهم في وطنهم، وتهديدهم بالتهجير، و»شرَعنة» القوانين العنصرية ضدهم، مقابل منح الاحتلال مشروعية تاريخية ودينية وقانونية مزعومة، وإن كانت مضادة بنيوياً له.
ولأن استلال «المطلب» يقع خارج حدود الكيان الاستعماري الإحلالي بتوليفته الثقافية والعرقية المتنوعة، فقد تجاوز ما يعتريه من أزمة «هوية الدولة» و»تعريف اليهودي»، غير المحسومة حتى اليوم، رغم أنها قضية ليست دينية أو سياسية، فحسب، وإنما هي قضية مصيرية تنصرف إلى رؤية العالم والذات، وسند تضامن الداخل الصهيوني ومصادر شرعيته، ما قد يتسبب في فقدان الأساس «الديني» لدولة «إسرائيل»، والمس بالمقدرة التعبوية في الصميم، بما يتم معالجته «بالتهويد»، وبالتالي انهيار شعار «يهودية الدولة» نفسه.
ولا تعد أزمة «الهوية» مستحدثة، وإنما وجدت تأصيلها في تعريف «اليهودية» نفسها، غير المرادفة لكلمة الديانة اليهودية، وإن كانت الأخيرة جزءاً منها، إزاء ارتباط بين اليهودية بوصفها ديانة واليهودية باعتبارها مسمى لجماعة بشرية، بحيث تمثل اليهودية، عندهم، الوحدة التي توصف بكونها ديانة قومية تعُبر عن ثقافة مستقلة ذات طابع متميز يختلف عن المجتمع الذي يحيط بها.
ويمكن هنا اعتبار عناصر مفهوم اليهودية بمثابة «هويات» يهودية متعددة ومركبة وليست هوية واحدة، وقد تكون مجرد تسميات، نظراً للأسس التي يقوم عليها تعريف اليهودية: دينية، قومية، أو دينية قومية، ولموقع تعريف اليهودية بين الواقعية والمثالية، بما يعد استخدامه معبراً عن نموذج أكثر تركيبية ومفسراً لواقع أعضاء الجماعات اليهودية، وللتغيرات التاريخية والثقافية والدينية التي دخلت على هذه الهوية وحولتها إلى هويات مختلفة.
ومن ذلك، نجد تسميات ومصطلحات متعددة ومتداخلة في مفهوم اليهودية، بصفتها مسمى أطلق على جماعات بشرية وليست عرقية، كما تحاول الصهيونية تصويرها، يرتبط بدلالته أكثر من عناصره.
وقد ظهر هذا المفهوم في مرحلة معينة من مراحل تطور مجموعة بشرية معينة، كان يشار إليها بتعبيرات أو تسميات أخرى، مثل الإسرائيليين والعبرانيين، فيما يعتقد بأن أصل التسمية مشتق من مملكة يهوذا أو «يهوذا» أحد أسباط يعقوب الإثني عشر أو من إله اليهود «يهوه» أو من الذين هادوا، أي تابوا ورجعوا، ما يعكس الخلط والالتباس فيه، رغم أن تلك التسميات القديمة تطورت، مثل العبرية التي اقترنت باللغة، و»إسرائيل» التي باتت الدولة بالمعنى السياسي، وهي نفسها «إسرائيل» بالمعنى الديني وإسرائيل «الشعب» بالمعنى العرقي، وكلها تجليات لنفس الجوهر الذي لا يتغير.
كما التصق المفهوم بالأصل العرقي حيناً، وبالثقافة أحياناً، ما يشي باقترانه بتسميات فرعية ارتبطت بتطور جماعة بشرية معينة فكرياً وحركياً، وليست له دلالة محددة وإنما مفهوم معقد ومركب.
وجد ذلك حضوره في الكيان الإسرائيلي، رغم قيام الصهيونية بنسج تعريف خاص «للأمة اليهودية»، تنقل بين «التدخل الإلهي» و»جماعة تاريخية من الناس متماسكة، يشدها عدو مشترك يتمثل في العداء للسامية»، بما يخلو من عناصر القومية المعروفة «للأمة»، فيما يجد الدين المشترك، كأحد عناصر تشكل القومية (الذي يفترض أن أي قومية بالعالم تستوعب تعدد الأديان بين أتباعها) اختلافاً في اليهودية، فلا يوجد مسيحي يهودي أو مسلم يهودي مثلما يوجد مسيحيون عرب.
وحتى اللغة ليست مشتركة، إذ يتحدث عناصر الجماعات اليهودية لغة المجتمعات التي يعيشون بها، إضافة إلى العبرية في «إسرائيل»، بينما تعتبر مراحل التاريخ المشترك في مفهوم اليهودية قصيرة بالنسبة لتاريخ اليهودية بشكل عام، فيما تنحصر رغبة العيش المشترك ضمن فئات قليلة نسبياً، «فمن لبى النداء أقل من ثلث يهود العالم»، مما يجعل مفهوم القومية لا ينطبق على اليهودية باعتبارها ديانة وليست قومية. بينما يوجد اختلاف حاد حول تعريف «من هو اليهودي»، إزاء مطالبة أرثوذكسية بالأخذ بتعريف اليهودي الذي ولد من أم يهودية أو تهود على يد أحد حاخاماتها، مقابل إصرار اليهودية الإصلاحية على الاعتراف بيهودية من تهود على يد حاخاماتها.
ويرجع ذلك إلى تنوع «الهويات اليهودية» في الكيان الإسرائيلي، بصفته نتاج الهجرات الصهيونية المتلاحقة التي أوجدت في داخله مجموعات أساسية يؤمن أعضاؤها باليهودية الحاخامية، هم السفارد والأشكناز والإسرائيليون، إلى جانب جماعات صغيرة هامشية، من مختلف بقاع العالم، تؤمن بأشكال مختلفة من اليهودية بدرجات متفاوتة. وثمة هوية مختلفة عن السابق وهي جيل «الصابرا»، وتعني الجيل الذي نشأ في فلسطين المحتلة ولم يأت من الخارج، حيث يعيش بعضهم وكأنهم بمثابة «أغيار» في الداخل الإسرائيلي.
في حين تغيب عناصر التاريخ والثقافة والفنون الواحدة والجامعة، رغم أن الساسة الإسرائيليين استخدموا الدين كأحد مقومات «القومية اليهودية»، عبر استعارة القيم والرموز اليهودية التقليدية، التي انتقلت مع الجماعات التقليدية للطوائف اليهودية المختلفة، خاصة التي جاءت من شرق أوروبا إلى فلسطين للاستيطان فيها.
ولكنها لم تكن كافية؛ إذ لم يجدوا سوى بضعة رموز ومضامين دينية قليلة، مثل المنورا وشمعدان الحانوكا وعيد الشعلة، للتعبير عن يهوديتهم أمام العالم، مما جعلهم يعيدون تفسير بعضها بعد ربطها بنصوص التوراة ووقائع التراث والتاريخ، ويتبنون الرموز والشعارات الدينية «للدولة».
لم تتحدد علاقة الدين وآلية عمله وتطبيقاته في الدولة بشكل واضح، غير أنها لم تستطع الانفصال التام عن التراث، بل سعت لأن تكون «دولة يهودية» بدون معرفة كيفية ترجمة يهوديتها إلى لغة الواقع بدون المساس بماهية العلمانية، بينما لا يمكن تجاهل دور الدين في دعم مزاعم «الحق التاريخي» على «أرض إسرائيل».
في المقابل، لم يعرف المتدينون كيفية التعامل مع دولة تعلن علمانيتها، ومن يحاول تفسير الوجود التاريخي دينياً يصاب بالفشل عند النظر إلى الدولة على أنها تجسيد لمفهوم المسيحانية الدينية، كما يفتقد مفهوم «الخلاص» حلاً لمشكلة العلاقة بين الدين والدولة، فيما لم يرد الحكم اليهودي العلماني في فلسطين صراحة في الشريعة اليهودية «الهالاخاة»، رغم أن معظم الحركات الدينية انحازت للدولة وأسهمت في قيادتها.
وقد انعكس ذلك في جدال صيغة إعلان قيام «الدولة»، في 15 أيار/ مايو 1948، واسمها وعلمها واسم «الكنيست» وعدد أعضائه، وفي عدم إصدار دستور إزاء وجود «التتاخ» (العهد القديم)، بالنسبة للمتدينين، وأمام مطامع توسيع نطاق الحدود لاحقاً، وفق رؤية ديفيد بن غوريون (أول رئيس وزراء إسرائيلي).
أبرز ذلك تحديات، غير محسومة حتى اليوم، بين المتدينين والعلمانيين، حول «هوية» الدولة، وتعريف «من هو اليهودي»، والعلاقة بين الدين والدولة، رغم اتفاقية «الوضع الراهن»، عام 1947، المؤطرة لها.
فيما نشأ تناقض حاد عندما تبنـت الصهيونية تفسيراً دينياً وأسطورياً للقومية يتناقض مع توجهاتها العلمانية من أجل صوغ «قومية» يهودية.
إذ أقيم في الكيان الإسرائيلي تجمع استيطاني يختلف نوعاً ما عن التجمعات اليهودية الأخرى في العالم، مما خلق تناقضاً بين مشروع «الأمة اليهودية»، ومشروع «الأمة الإسرائيلية» الناشئة أو بين الهويتين الإسرائيلية واليهودية معاً.
كما طرح تساؤلات ظهرت بعد قيام «الدولة» حول مرجعية اليهود ومركزهم، وتعريف «اليهودي» وعلاقته بالقدوم إلى «إسرائيل» بقصد الإقامة فيها أو البقاء في المنفى، تجددت مع تعريف «إسرائيل» لنفسها على أنها «دولة يهودية» ديمقراطية بما يحمل من تناقض في ظل وجود زهاء 21? من المواطنين الفلسطينيين في فلسطين المحتلة عام 1948.
ويدعو مصطلح «الدولة اليهودية» إلى تفسيرات تتعلق بجوهر محدد للدولة، جوهر يهودي، مما أوجد قلقاً عند العلمانيين باعتباره جسراً لتحكم الشريعة اليهودية في حياة الناس بشكل أعمق، وفق تعامل الأحزاب الدينية مع مفهوم الدولة اليهودية، ولكنه سرعان ما توقف عند رؤيتهم فيه لما هو أبعد من أغلبية يهودية، بحيث يشكل مضموناً ليهودية الدولة كامناً في تمكينها من تطوير هوية يهودية علمانية.
لأن الصهيونية في أوج علمانيتها لم تنجح إطلاقاً بوضع تعريف علماني لليهودية يختلف عن تعريف الشريعة لهذا الانتماء، أي الدين، فاليهودي قومي بنظر الصهيونية، وهو أيضاً اليهودي دينياً وفق تحديد المؤسسة الدينية.
فعملية الفصل بين الدين عن الدولة أمر صعب ما دامت اليهودية تعني رموز الدولة ومصدرها التاريخي التراثي وتقرر المواطنة عبر قانون العودة الذي وضع تعريفاً يتطابق مع تعريف الدين، باعتبار أن «اليهودي هو من ولد لأم يهودية أو تهود وليس تابعاً لديانة أخرى»، ومع قيام «إسرائيل» تحولت الهوية اليهودية إلى هوية رسمية تحتاج إلى تحديد اليهودي الذي يسري عليه القانون بموجب تحديد الشريعة.
فيما شكلت «يهودية الدولة» أداة لسن قوانين مصادرة أراضي العرب واستيطانها، ومخطط تهويد كل شيء في فلسطين المحتلة، لاسيما القدس بصفتها «العاصمة الموحدة والأبدية لإسرائيل»، وفق مزاعمهم.
إن الإشتراط الإسرائيلي الاعتراف «بيهودية الدولة» في أي اتفاق تسوية، رغم عدم حسم إشكاليات «الهوية» و»تعريف اليهودي» ومأزق «اليهودية»، يتجاوز هدف عرقلة تحقيق تقدم في العملية السياسية، صوب إسقاط «حق العودة» وتهديد فلسطيني 1948 بالتهجير، وإضفاء المصداقية على الرواية الصهيونية، بما يمس جوهر القضية الفلسطينية ومعادلة الصراع العربي- الإسرائيلي.
المصدر: القدس العربي