أثار خطاب الرئيس الفلسطيني في جدّة ردود فعل واسعة، حين توعّد خاطفي المستوطنين الثلاثة بالعقاب، واعتبر أنّ العمليّة تستهدف دمار الفلسطينيين، وأنّ التنسيق الأمني يحمي الشعب الفلسطيني، وأنّه لا قِبَل للفلسطينيين بمقاومة إسرائيل لا عسكريًا ولا عن أي طريق آخر. كما أدان أول بيان صادر عن الرئاسة العنف من أي جهة أتى، بداية بخطف المستوطنين الثلاثة، وكأن الاحتلال بكل جرائمه وقع الآن بعد العمليّة التي لم تثبت هوية منفذها، وأن خطف الشعب الفلسطيني لم يحدث منذ ستة وستين عامًا على الأقل.
لا بد من اتباع مسار جديد في ظل استمرار الاحتلال وتعميقه وتوسيع الاستيطان وتدنيس المقدسات واعتداءات المستوطنين اليوميّة واعتقال آلاف الفلسطينيين، العديد منهم من دون محاكمة، وحصار قطاع غزة، واستشهاد تسعين فلسطينيًا في فترة استئناف المفاوضات، وإلى رفض إطلاق الدفعة الرابعة من أسرى ما قبل «أوسلو»، بالرغم من أن القيادة الفلسطينيّة دفعت الثمن مقدمًا من خلال استئناف المفاوضات وفق الشروط الإسرائيليّة وتجميد التوجه نحو الأمم المتحدة لمدة تسعة أشهر.
ألا تأتي العمليّة كرد متوقع لغياب القيادة الواحدة والمؤسسة الجامعة والمشروع الوطني المشترك، ولفشل المفاوضات بالرغم من التنازلات السخيّة والمجانيّة القديمة والجديدة التي قدمها المفاوض الفلسطيني، برغم أن إسرائيل حوّلت السلطة إلى "سلطة بلا سلطة" كما قال الرئيس وكبير المفاوضين؟
كيف سيحمي التنسيق الأمني الشعب الفلسطيني بعد أن تجاوزت الحكومات الإسرائيليّة المتعاقبة "اتفاق أوسلو" جوهريًا، لأن الأحزاب الحاكمة في تل أبيب تعتقد أن بمقدورها الحصول على المزيد من التنازلات من دون أن تقدم إسرائيل شيئًا يذكر في المقابل، وفي ظل تحويل إسرائيل السلطة إلى وكيل أمني فقط، واستباحتها مناطقها المصنفة (أ) منذ عمليّة "السور الواقي" في العام 2002 وحتى الآن؛ ما يبرر وقف التنسيق الأمني منذ ذلك التاريخ على الأقل؟
قد يكون التنسيق الأمني بعد توقيع أوسلو "له ما يبرره" في ظل وهم إمكانيّة قيام دولة فلسطينيّة عن طريق المفاوضات الثنائيّة وإثبات حسن النيّة، وعلى أساس أنّ السلطة تعطي تنسيقاً أمنيًا والتزامات سياسيّة واقتصاديّة مقابل أمل بحصولها على الدولة في نهاية الفترة الانتقاليّة، حيث كان من المفترض إنهاء ثلاث عمليات إعادة انتشار للقوات الإسرائيليّة، كان من المفترض أن تشمل 90% من الأراضي المحتلة في العام 1967 عند بدء مفاوضات الوضع النهائي. وها نحن الآن في حزيران 2014، والسلطة لم تعد تملك حتى ما كانت تملكه من سلطات وصلاحيات وسيطرة غداة تأسيسها حتى 28/9/2000.
الآن بعد فشل المفاوضات، وجدت إسرائيل ضالّتها في عمليّة الاختطاف أو الاختفاء لتسارع في تنفيذ خطوات أحاديّة في الضفة لقطع الطريق على أي محاولة أو مبادرة لتقديم حلول لا توافق عليها. وتحاول أن تغري "فتح" بأنها ستوكلها بقيادة الفلسطينيين إذا فكّت المصالحة مع "حماس". في حين أن ما تقوم به من عدوان وإهانات توجه ضربات لـ"فتح"، لا تقل، بل تأثيرها أسوأ من السعي لتصفية البنية التحتيّة لـ"حماس". فإذا فقدت السلطة المصداقيّة والشرعيّة الشعبيّة والوطنيّة والقدرة على تمثيل الفلسطينيين، فأول من سيتخلى عنها الاحتلال الذي لا يحتاج طويلا لقيادة ليس لها تأثير على شعبها.
في ضوء ما جرى في مدينة رام الله من مهاجمة متظاهرين لمقر الشرطة احتجاجًا على التنسيق الأمني ووقوف الشرطة وأفراد الأجهزة الأمنيّة مكتوفي اليدين، بينما تعيث القوات الإسرائيليّة فسادًا وتخريبًا في المدن والقرى والمخيمات الفلسطينيّة، ووسط حملة تفتيش واعتقالات طالت العشرات من الشرطة وأفراد الأجهزة الأمنيّة، وبعد سلسلة من إجراءات قمع السلطة للصحافيين والمتظاهرين التي شهدناها في أكثر من مدينة فلسطينيّة.
مطلوب من السلطة وقف التنسيق الأمني فورًا من أجل وقف العدوان الإسرائيلي، لأن إسرائيل إذا وجدت أنها ستخسر من عدوانها أكثر مما تربح، فإنها ستعيد النظر فيه أو تخفف منه بدرجة كبيرة على الأقل.
والمقصود بذلك ليس التنسيق المدني الذي يهدف إلى تسهيل حياة المواطنين، وإنما الالتزام الفلسطيني بنبذ "العنف والإرهاب"، أي محاربة المقاومة المسلحة واعتقال المقاومين وتصفية البنيّة التحتية لها. على السلطة وقف مثل هذا التنسيق قبل خراب البصرة واندلاع انتفاضة تستهدفها. فالسلطة لن يحميها من شعبها عشرات الآلاف من أفراد الأجهزة الأمنيّة المسلحين والمدربين جيدًا، لأن هؤلاء لن يكونوا في النهاية إلا كما كانوا دائمًا وطنيين يقفون إلى جانب شعبهم.
إن التنسيق الأمني لا تتحمل المسؤوليّة عنه الأجهزة الأمنيّة، بل القيادة السياسيّة، واستمراره، خصوصًا في ظروف العداون الإسرائيلي الحالي، يضع عناصر الأجهزة الأمنيّة في مواجهة شعبهم، لا سيما أنهم شاهدوا بأم أعينهم أن التنسيق لم يجنب الشعب الويلات، وإنما شجع الاحتلال على مواصلة عدوانه وإهانة الرئيس الفلسطيني، لدرجة دفعت الصحافيّة الإسرائيليّة رفيت هخت إلى الكتابة "أنه لا يوجد أي زعيم مسلم أو مسيحي أو يهودي قادر على احتمال هذه المهانة المتواصلة، وإبقاء يده ممدودة ومعلقة في الهواء طلبًا للسلام".
ما سبق ليس دعوة مفتوحة للمقاومة المسلحة، بل تذكير لمن نسي أو تناسى بأنها حق وواجب على الشعب الواقع تحت الاحتلال، ومقرّة من القانون الدولي، من دون أن يقلل ذلك من أهميّة الإدراك أن المصلحة الوطنيّة توجب التعامل مع المقاومة بجميع أشكالها، بما فيها المسلحة، بشكل مسؤول، بحيث تكون خاضعة لإستراتيجيّة ومرجعيّة وطنيّة موحدة.
إن المقاومة عمل وطني يتأثر الجميع بنتائجه الإيجابيّة والسلبيّة. لذلك، لا بد من ألا تترك لأي شخص أو تنظيم، مهما علا شأنه أو دوره التاريخي أو الراهن، ليقرر وحده شكلها وتوقيتها، بل يجب أن يخضع كل ذلك للدراسة والقرار الوطني الموحد الذي يتخذ في المؤسسات الوطنيّة الموحدة غير المتوفرة حتى الآن بكل أسف.
كان من المفترض أن تكون حكومة الوفاق ثمرة للاتفاق على "ركائز المصلحة الوطنيّة العليا"، وقواعد العمل والنضال وبرنامج القواسم المشتركة وأسس الشراكة السياسيّة، وعلى كيفيّة توفير مقومات الصمود، وإعادة بناء المنظمة والأجهزة الأمنيّة بعيدًا عن الحزبيّة وفك الحصار ومعبر رفح والإشراف على الحدود، وكيفيّة دمج الموظفين وعودة المفصولين، ومعالجة جميع آثار الانقسام وتحقيق العدالة الانتقاليّة؛ لا تأجيل القضايا الجوهريّة والاكتفاء بمصالحة ثنائيّة اتفقت فقط شكليًّا على الحكومة، وتتعامل مع الانتخابات كشكل لاستمرار وحسم الصراع الداخلي وليس أداة لخدمة القضيّة الوطنيّة.
المصدر: السفير