لم تمضِ أيام قليلة على إعلان حكومة التوافق الوطني الفلسطيني في الثاني من حزيران/يونيو الجاري، حتى انفجرت بوجهها أولى الأزمات المتوقّعة. لم يستلم موظفو حكومة حماس السابقة في غزّة رواتبهم أسوة بنظرائهم الخاضعين للسلطة الفلسطينيّة.
وقد تسبّب ذلك بفوضى شهدتها مدن غزّة يومَي الرابع والخامس من حزيران/يونيو الجاري تخللتها اشتباكات أمام المصارف، ما دفع الشرطة إلى السيطرة على الموقف. وأعلنت المصارف إغلاق فروعها صباح الخامس من حزيران/يونيو حتى إشعار آخر.
كان "المونيتور" شاهداً على هذه الأحداث الميدانيّة في غزّة. وقد عبّر أحد المتظاهرين عن رفضه لما أسماه "سياسة التمييز بين موظف وآخر". وشدّد قائلاً "ينبغي التعامل معنا بالمنطق ذاته. ويكفي موظفي غزّة أنهم لم يتقاضوا راتباً كاملاً منذ سبعة شهور متواصلة، لأن الحكومة السابقة عانت أزمة ماليّة، ما اضطرها إلى صرف نصف راتب فقط".
لكن متظاهراً آخر وإن أبدى تفهمه لاحتجاج زملائه من موظفي غزّة، إلا أنه رأى أن ذلك "لا يعني أن يأخذوا القانون بأيديهم ويغلقوا البنوك ويمنعوا عشرات آلاف الموظفين من استلام رواتبهم". أضاف "ثمّة وسائل سلميّة للاعتراض والتظاهر والمطالبة، لكن ليس من بينها فرض إرادة طرف على الآخر بالقوّة".
فقدان السيطرة
وتزامن الأحداث الميدانيّة أمام مصارف غزّة زاد الفلسطينيّين قناعة بأن الأمر ليس عفوياً، بل إنه مخطّط له من قبل حركة حماس لجذب الانتباه لموظفيها وعدم تمرير ما يحدث. ولذلك أتت تصريحات قادتها مبرّرة للاحتجاجات، محمّلة حكومة التوافق مسؤوليّة الأحداث.
لكن عضو المجلس الثوري لحركة فتح حازم أبو شنب أشار إلى تفسيرَين اثنَين لما حدث: إما أن قيادة حماس فقدت السيطرة على عناصرها، أو قرّرت الاعتراض على ما اتفقت عليه لتجامل عناصرها الذين شعروا أنه تمّ التضحية بهم من قبلها.
من جهته حمّل رئيس نقابة الموظفين في غزّة محمد صيام حكومة التوافق مسؤوليّة تأخير صرف الرواتب. وقال في مؤتمر صحافي عقده في الخامس من حزيران/يونيو الجاري حضره "المونيتور"، "لن نقبل باستمرار حالة الغموض حول موعد الرواتب. ولن تكون المصالحة على حساب الموظفين، وإلا فلدينا سلسلة فعاليات احتجاجيّة".
ولعلّ أوّل الاحتجاجات تمثّل باستحداث صفحة على موقع "فيسبوك" للتواصل الاجتماعي، تعنى بقضيّتهم.
وقد غصّت شبكات التواصل الاجتماعي بسجالات محتدمة بين مؤيّد ومعارض لاحتجاجات موظّفي حماس. لكن الفكرة الأكثر تداولاً هي أن ما حصل نال من شعبيّة حماس في غزّة وأضرّ بها أكثر مما نفعها، لأن موظفيها تحملوا ظروفاً أصعب من ذلك والتزموا الصمت.
وقد طالب رئيس وفد المصالحة في حماس موسى أبو مرزوق، حكومة التوافق بالتعامل مع الموظفين من دون تمييز، وإلا فإنها تكرّس الانقسام بين الضفّة وغزّة عبر تسليم موظفين دون آخرين رواتبهم. ورأى في أزمة الرواتب تكريساً لواقع أن الفلسطينيّين ما زالوا فريقَين، محذراً من ردود الأفعال.
من جهته أكّد الناطق باسم حكومة التوافق إيهاب بسيسو على أنها ستشكل لجنة للنظر بالشكاوى حول الرواتب، متأسفاً لما حدث في غزّة وقائلاً إن الأزمات لا تحلّ بهذه الطريقة بل يجب توفير الضوابط القانونيّة لحلها.
وبوادر حل الأزمة بدأت باتصال هاتفي أجراه رئيس حكومة غزّة السابق إسماعيل هنيّة مع قطر الحليف الأقوى، مساء السادس من حزيران/يونيو الجاري. وقد وعده الأمير تميم بن حمد آل ثاني بدعم حكومة التوافق لتمكينها من صرف رواتب موظفي غزّة.
لكن وكيل وزارة الماليّة في غزّة يوسف الكيالي يقول لـ"المونيتور" إن "الانفراج في أزمة الرواتب عقب استعداد قطر لتغطيتها، لا يعني وجود موعد محدّد لصرفها حتى الآن". ويأمل أن "يتمّ التنفيذ قريباً بعد تجهيز كشوفات رواتب الموظفين".
انفجار هذه الأزمة مبكراً أمام الحكومة الجديدة يؤكد ما كان "المونيتور" قد توقّعه في تقرير سابق حول "ظهور الشياطين" في تفاصيل تطبيق المصالحة بين حركتَي فتح وحماس.
إطفاء الحرائق
لكن الجديد أنه فور اندلاع الأزمة، شعرت أوساط نافذة في داخل حماس أن الرئيس الفلسطيني محمود عباس بدأ يلعب بها. ويقول مسؤول بارز فيها فضّل عدم الكشف عن هويّته لـ"المونيتور"، "تخوّفنا من ظهور إشكاليات تطبيق المصالحة. لكن البداية المبكرة تثير كثيراً من الشكوك تجاه نوايا فتح بجديتها، لأننا اتفقنا على تحميل الموظفين للحكومة الجديدة. ولذلك مخطئ من يقول أن سبب الأزمة فنّي إداري بحت".
يضيف "كان بالإمكان تأخير رواتب موظفي الضفّة أياماً عدّة حتى تتمّ تسوية أمور موظفي غزّة. لكن المقصود هو جسّ نبض حماس أمام أول اختبار، والذي اجتازته بنجاح، على الرغم من عدم وجود ضمانات من قطر بدفع الرواتب حتى إشعار آخر. ما يجعلنا نعود إلى الحلقة المفرغة ذاتها".
لكن مسؤول حركة فتح في غزّة زكريا الآغا أكد على أن الحكومة الجديدة لا تتحمل أعباء الموظفين قبل إعلان تشكيلها بتاريخ الثاني من حزيران/يونيو 2014.
ولا يبدي المسؤول في حماس نفسه في حديثه إلى "المونيتور"، "تفاؤلاً كاملاً بأن تشكّل المنحة القطريّة حلاً نهائياً لموظفي غزّة. فأمامنا مشكلة جديدة تتعلق بالموظفين العسكريّين البالغ عددهم 25 ألفاً". ولفت إلى معلومات لم يكشف عن مصدرها، تفيد بامتناع السلطة عن دفع رواتبهم لأنهم ناشطون في كتائب عز الدين القسام ويمارسون أعمالاً مسلحة، ما يعني إلقاء المشكلة من جديد أمام المصالحة، متخوفاً من عدم قدرة حماس منع تنفيذ احتجاجات واسعة النطاق في غزّة.
ولعله بذلك يعلّق على إعلان رئيس نقابة الموظفين في الضفّة الغربيّة بسام زكارنة الذي قال إن "اعتماد رواتب إضافيّة يكون بموازنة من قبل الرئيس. والحل الذي قامت به قطر لمعالجة قضيّة موظفي غزّة أتى عبر حماس وليس الحكومة". وقد رفض المصادقة على جميع موظفي حماس كما هم.
وفي مقال نشره موقع تابع لحماس، جاء أن الحركة تركت جهازاً إدارياً وأمنياً يعدّ عصب الحياة بالنسبة إلى غزّة، وحاولت اللعب به أو تجاهله والقفز عنه والتقصير باستحقاقاته الماليّة. وهو سينفجر بركاناً في وجه الجميع، لأنه عبث بأرزاق آلاف العائلات.
واللافت أن الحل القطري الذي لم يجد طريقه إلى التنفيذ حتى كتابة هذه السطور، تزامن مع تصريحات للرئيس عباس مساء السابع من حزيران/يونيو استنكر فيها إطلاق حماس تظاهرات وإغلاق المصارف لمنع موظفيها من استلام رواتبهم في غزّة. ورأى في ذلك إشارة سلبيّة إلى أهداف حماس من المصالحة، قائلاً إنه لا يمكنه دفع رواتب موظفي حماس قبل الاتفاق على جميع تفاصيل المصالحة، مطالباً إياها بأن تدفع لهم كالسابق.
ويقول مسؤول مالي في حماس فضّل عدم الكشف عن هويّته لـ"المونيتور" إن "أزمة الرواتب تخصّ 50 ألف موظف، 10 آلاف منهم يتقاضون رواتبهم من السلطة والبقيّة أي 40 ألفاً من حماس". يضيف أن رواتبهم 25 مليون دولار شهرياً، معرباً عن شكره لجهود قطر لـ"إطفاء الحرائق"، لكن ذلك بالنسبة إليه "ليس حلاً مثالياً. فقطر ليست مجبرة على دفع ملايين الدولارات من دون مقابل".
ويشدّد على أن "تنصّل حكومة التوافق من موظفي غزّة ينتقص من شرعيتهم، باعتبارهم تابعين لحماس الحركة وليس الحكومة. وهذا ليس صحيحاً، وسيجعلهم خارج سيطرتها إن لم يستلموا رواتبهم منها. وهو ما قد يفتح المجال أمام سيناريوهات غير مرغوب فيها، ستعرقل عمل الحكومة في غزّة ببعض التحركات الميدانيّة، تكون المسمار الأول في نعش المصالحة".
المصدر: المونيتور