منذ الخمسينيات والاتهامات تتردد في أرجاء المنطقة العربية حول تعامل النظام الأردني مع إسرائيل. وكان البعض يرى في ذلك مجرد اتهام سياسي، في حين يندفع البعض للحديث عن أن الاتهام يستند إلى وقائع أمنية وسياسية على حد سواء. ولكن الاتهامات في الغالب لم تكن تستند إلى معطيات ووثائق، وإنما إلى شذرات في سير حياة مسؤولين سابقين. وفي كل حال، كانت أبرز الاتهامات الموجهة للملك الأردني حسين تلك التي أثيرت في حرب تشرين 1973، حينما سربت أنباء عن تحذيره لرئيسة الحكومة الإسرائيلية حينها غولدا مئير بتخطيط سوريا ومصر لشن حرب ضد إسرائيل، وهو تحذير لم تأخذ به.
وبحسب الروايات المنشورة في إسرائيل ضمن وثائق حرب تشرين، فإن الملك حسين (الذي كان يسمى في شيفرة الاتصالات الإسرائيلية بـ"إيتان") زار إسرائيل في 25 أيلول العام 1973، أي قبل حوالي عشرة أيام من الحرب، ولم يكشف سر هذه الزيارة إلا في العام 1988. وقد حذر الملك الأردني غولدا مئير من الحرب الوشيكة، ولكنها لم تأخذ بتحذيره، ولم تول الاستخبارات الإسرائيلية ذلك الاهتمام الكافي، وهو ما دفع بلجنة "أغرانات" (لجنة التحقيق في حرب تشرين) لتحميل الاستخبارات المسؤولية عن الفشل. وطوال السنوات الماضية كان هناك من يتساءل عن سبب تحميل الاستخبارات المسؤولية، في حين أن القيادة السياسية كانت تعلم التفاصيل.
فقد وصل الملك حسين إلى إسرائيل قادماً من زيارة قام بها إلى عدد من العواصم العربية، مجتمعاً إلى الرئيس المصري أنور السادات والسوري حافظ الأسد، والملك السعودي فيصل بن عبد العزيز. وباختصار كان الملك حسين في صورة الخطة العربية، ولو بالخطوط العامة. وحين أطلع غولدا مئير على معلوماته، أحالت الأمر إلى الاستخبارات العسكرية للتقدير.
وكانت الثقة كبيرة بين إسرائيل والملك حسين، فقد كشفت الوثائق الأميركية أنه كان يتلقى راتباً من وكالة الاستخبارات الأميركية، وكانت واشنطن، وفق وثائق الخارجية، تعلم بزياراته لإسرائيل. كما أن المعلومات، التي تضمنت تحذيراً من خطة الحرب العربية وصلت مباشرة إلى وزير الخارجية الأميركية حينها هنري كيسنجر، الذي تداول فيها مع السفير الإسرائيلي.
وأشارت وثائق الخارجية الأميركية إلى أن الملك حسين أبلغ كيسنجر أن "كل القوات السورية أمرت بتجهيز نفسها للقتال الليلي، كما أعدت خطة عمليات فائقة السرية لهجوم ليلي من ثلاث فرق لتطهير الخط الأمامي لجبهة الجولان. وفي اليوم التالي ستحاول فرقة مدرعة احتلال باقي الهضبة. ويحتمل أن يزج العراق بفرقتين كقوة احتياط إستراتيجي". وترى إسرائيل أن سوء التقدير أصاب كلا من القيادتين الإسرائيلية والأميركية على حد سواء تجاه نيات مصر وسوريا.
عموماً وبرغم إكثار إسرائيل من الحديث عن المصري أشرف مروان بوصفه "جاسوس القمة" لإسرائيل حتى تلك الحرب، إلا أن هناك من يعتبر أن الملك حسين كان أرفع مرتبة منه. وهذا هو الوصف الذي أطلقه المساعد العلمي للجنة "أغرانات" يؤاف جيلفر في وصفه لتعامل الملك حسين مع غولدا مئير بأنه "مصدر". وكتب أن "كشف المصدر يقع في نطاق الجهة التي تقوم بتشغيله".
وكان الملك حسين، وفق الوثائق الأميركية، قد وجه تحذيراً سابقاً لإسرائيل وأميركا في الثالث من أيار 1973، حيث أشار إلى أن الجمود السياسي سيقود إلى تحرك عسكري، وأن قوات من الجزائر والسودان في طريقها إلى مصر، كما أن المغرب سيرسل قوات إلى سوريا، في حين ستصل طائرات "ميراج" ليبية إلى مصر. وستتواجد قوات عراقية هامة على مقربة من مثلث الحدود السورية الأردنية. وكل ذلك في إطار الاستعداد العربي للحرب.
وتحت عنوان "لعبة الأردن المزدوجة" كتب عوفر أدرات في "هآرتس"، أن الدكتور اساف دافيد، الخبير في الشؤون الاردنية من دائرة العلوم السياسية في الجامعة العبرية وزميل بحث في "معهد ترومان لبحوث السلام"، فحص مئات الوثائق من العام 1973، التي سمحت الولايات المتحدة بنشرها، الأمر الذي سمح له بأن يروي من جديد قصة الحرب من الزاوية الأردنية.
ويقول دافيد إن "قرار الأردن عدم المشاركة الفاعلة في الحرب نبع أيضاً من الحوار السري الذي أداره الأردنيون مع الإسرائيليين". ويضيف أن أحد الأمثلة الجيدة على ذلك هو إرسال لواء أردني الى سوريا بعلم اسرائيل وبالموافقة الصامتة بين الدولتين. ويقول إنه "بطبيعة الاحوال، ما كان يمكن لاسرائيل أن تقر للملك حسين ارسال لواء الى سوريا، ولكنها قبلت بالخطوة الأردنية بصفتها أهون الشرور، وحاولت الامتناع عن ضرب اللواء الاردني. أما الأردنيون من جهتهم، فقد وعدوا بأن تعمل قواتهم ببطء وبحذر بقدر ما يستطيعون. كما أنهم فهموا بأنهم سيكونون ملزمين بالتضحية بجنود في الحرب كي ينهوها من دون ضرر في الرأي العام".
وتتضح لعبة الأردنيين المزدوجة بجلاء من الوثائق الديبلوماسية التي عثر عليها دافيد. وهكذا مثلاً في العاشر من تشرين الاول العام 1973، أي بعد أربعة ايام من اندلاع الحرب، اقترح الامير حسن (ولي العهد) على كيسنجر، ان يطلع الملك الاسرائيليين على انتشار قواته وعلى مواقعها الدقيقة، ويضمن أن "ليس للأردن أي نية للاشتباك بين الوحدات الأردنية والقوات الاسرائيلية". أما الملك نفسه، فقال للسفير الاميركي في الاردن دين براون إن مشاركة جنود اردنيين في الحرب هي فقط محاولة لـ"التغطية على نفسه أمام الدول العربية في حال تدهور الوضع بشكل سريع"، مثلما صيغت الامور في الوثائق الأميركية.
وفي حديث آخر مع السفير البريطاني في الاردن، رغب الملك الحسين في الاستيضاح "قبل أن يفوت الأوان"، هل يتعاطى الاسرائيليون مع "بادرته" تجاه سوريا كذريعة للحرب. لعل الملك خشي ألا يكون هذا كافياً، ولهذا فقد بعث أيضاً برسالة الى رئيسة وزراء اسرائيل شرح فيها خطواته العسكرية، وطلب من اسرائيل "الامتناع عن الهجوم على هذه الوحدة اذا كان الأمر ممكناً". وشدد كذلك على أن الخطوة "ستبقي الأردن وإسرائيل خارج حرب عديمة المعنى الواحدة ضد الاخرى". ووصفت مئير رسالة الملك بأنها "تمس شغاف القلب".
ومع ذلك، ففي الأيام الاولى من الحرب تأكدت اسرائيل من أن الملك حسين يفهم بأنه إذا انضم الى الحرب، فإن اسرائيل "ستكرس الجيش الاسرائيلي لتدمير الأردن تماماَ، بسلاح جوه، جيشه وبناه التحتية"، مثلما صاغ ذلك الأميركيون في المراسلات في ما بينهم.
وبحسب دافيد، فإن وزير الخارجية الأميركية كيسنجر طلب من السفير الاسرائيلي في واشنطن سمحا دينتس، أن تمتنع إسرائيل عن الهجوم على الوحدة الاردنية، وشرح أن الأردنيين لن يشاركوا في القتال بل "فقط سيقفون هناك". وردّ دينتس بأنه مع أن رد إسرائيل الرسمي سلبي، إلا أن ذلك لا يعني أن إسرائيل ستهاجم الأردن.
وفي هذا السياق، عثر دافيد في الوثائق الأميركية على تصريحات لرئيس وزراء الاردن زيد الرفاعي، الذي قال للسفير الأميركي، إن "المطلوب الآن هو أن يكون هناك شهداء أردنيون". ويشرح دافيد أن الرفاعي قال في واقع الأمر "إنه يبعث بجنود إلى الموت بشكل مؤكد في ميدان المعركة لإرضاء القائد". وفي نهاية المطاف شارك اللواء الاردني في المعارك وتكبد خسائر فادحة سواء بنار الجيش الاسرائيلي أو بنار جيوش عربية أخرى.
المصدر: السفير