/منوعات/ عرض الخبر

الرؤيا الأوباميّة: تقويض الولايات المتحدة

2013/08/26 الساعة 01:14 م

أقدار أميركا باتت متعجلة، في زمن أوباما، للذهاب الى نهاياتها المحتومة. هذا ما يخلص إليه المحلّل السياسي ذائع الصيت، دينش دسوزا، في دراسته الحديثة الأكثر رواجاً اليوم بعنوان: "أميركا أوباما: خلخلة الحلم الأميركي"، عن منشورات "ريغنيري"، 2013. دليله على هذا التصور الذي يحشر الولايات المتحدة في موقع متقدّم مكشوف على العراء بانتظار اقتراب نهاية العالم، أن الرئيس أوباما هو العقل المدبّر الذي يدير "لعبة" تفكيك المرتكزات الحيوية للإمبراطورية التي فقدت الثقة بنفسها. إنه، بالفعل، مشهد مقتبس بحذافيره من "دراما" يوم القيامة التي يموت فيها الأحياء، ويقوم فيها الأموات من عزلة العدم. كيف يزمع هذا الرئيس الذي تسلّق جدران البيت الأبيض على حبال خطبه الساحرة، على وضع هذا السيناريو "المدهش" موضع الفعل؟ عن هذا التساؤل الآتي من عالم الغيب يجيب الكاتب بالقول، إن أوباما، وقد استجمع لديه كل مهارات "القيصر" الجديد، ماض في توظيف نواياه المبيتة على مستويين اثنين: أولهما، وهو المسكون بهاجس التغيير، يعمل بصمت وذكاء وهمّة فائقة لخلخلة الولايات المتحدة، على الأقل في أشكالها التقليدية. الثاني متفرع من الأول، يتمثل في الاحتمال المزعوم لإعادة بناء أميركا مما يختاره هو من الفتات المفككة، على نحو ينسجم بالضرورة مع رؤيته الذاتية في الهدم والبناء. من أجل ذلك، يطلق المؤلف على الرئيس لقباً يرى أنه يليق به ويستحقه بامتياز، هو: مهندس الانهيار الأميركي في زمن التحولات الكبرى والتصدعات المفاجئة والأقدار المتسارعة في عالم متلبّد.
ويتساءل المؤلف ثانية: الى أين يرغب أوباما في جرّ الولايات المتحدة وراء رؤيته المرعبة؟ يجيب: الى حيث يغدو الحلم الأميركي المزعوم هباء منثوراً، سراباً يوهم المخيلة بوجوده، ثم يوهمها باختفائه. وإذا بالأميركيين يلهثون خلف هذا السراب المريب، المحيّر، الكاذب، من مكان الى آخر. عبثاً يرونه، وعبثاً يلتقطونه. فإذا بهم من شدة المعاناة، ينقلبون هم أنفسهم مادة سرابية تائهة تبحث عمّن يراها فلا يراها. تنتمي هذه الدراسة، في طبيعة تكوينها البنيوي، الى تلك الكتابات التي درجت في أميركا خلال العقود الثلاثة الأخيرة، حول اقتراب نهاية العالم بدءاً بالخطوط الأولى لدنو الولايات المتحدة من مشارف الانهيار، فالسقوط، فالزوال. يقع اختيار المؤلف، وهو من كبار الضالعين في تحليل السياسات الأميركية، على الرئيس أوباما لتصويره نموذجاً حياً يجسّد، بالأدلة الملموسة، هذا المشهد القاتم الذي تقشعر له الأبدان. لا أميركا من دون الحلم الأسطورة الذي زُرع زرعاً في ذاكرة الناس، ولا حلم أميركياً يذكر من دون الولايات المتحدة بأشكالها المترامية على الساحة الدولية. أوباما، طبقاً لاستنتاجات الدراسة، يريد القضاء على الحلم، فإذا به يقضي على الأمة. ولكن هل تنجو أميركا من مغبّة النهاية بخروج أوباما من البيت الأبيض؟ لا جواب!
يبدو هذا الكتاب، للوهلة الأولى، استهدافاً عن سابق تصور وتصميم للقامة الكبيرة التي نسجها الرئيس الأميركي، باراك أوباما، لنفسه. لعلّ في هذا التصوّر شيئاً كثيراً من هذا التوجّه باعتبار أن مؤلف هذه الدراسة يأخذ على عاتقه، منذ الصفحة الأولى لهذا الإصدار، أن يبثّ في روع القارئ، منظومة من المشاهد السياسية الاقتصادية الثقافية التي تحيله، على الفور، هيكلاً مهشماً منكفئاً على انقاضه المتبقية. وقد سبق للكاتب الذي عمل محللاً سياسياً في البيت الأبيض وأستاذاً مرموقاً في جامعة ستانفورد الأميركية للنخبة، أن استهّل مهمته الكاسحة هذه بدراسة أولى نُشرت، منذ عامين، بعنوان "جذور غضب أوباما"، بذل فيها جهداً مضنياً ليثبت على الملأ زيف الصورة التي يروّجها أوباما عن ماضيه النضالي. وإذا ما صُنف الكتاب الأول في خانة تفكيك شخصية الرئيس وتعطيل مفاعيل الأقنعة التي يرتديها طبقاً لحاجته الموسمية الى كل منها، فإن الدراسة الثانية ترمي، بالوتيرة عينها، الى نسف الهالة "الأسطورية" التي جعلها مظلة دائمة له. على هذا الأساس من إقدامه على توظيف هذا السيناريو المدمّر بأسوأ أشكاله الممكنة، يظهر المؤلف تيقظاً مثيراً للدهشة مردّه الى محاولته الكشف عن الهوة العميقة التي تفصل بين الشعارات الرنانة للرئيس وتطبيقاتها العملية على أرض الواقع. رئيس يلقي كلماته كالتعويذة على الجمهور الأميركي العريض. يفتنهم ببهرجة من الألفاظ الساحرة. يستدرجهم بسرعة البرق الى تيار جارف من المخيلة المتلألئة البراقة. ثم يتعمّد، بنبرته الواثقة أن يلتقط أحلامهم المتوثبة ليودعها هناك حيث يتخدّرون في ظلال من الاحتمالات المستساغة. اللافت، في هذا السياق، أن الجماهير الغفيرة التي كانت تتحيّن الفرص للإصغاء الى خطبه الحالمة، أثناء حملاته الانتخابية، وقد أدمنت فعلاً على تلقي الصور المكثفة التي يضخّها في أفئدتهم وعقولهم. ومن أسف، كما يشير إليه المؤلف، أن أوباما بلغ شوطاً بعيداً في قدرته الخطابية على إحلال الوهم مكان الحقيقة. ومع ذلك، بدا، على نحو لا شك فيه، أن الناس كانوا يحتشدون ليتشبعوا بنشوة هذه اللحظات القليلة التي تحيل الوهم اللذيذ حقيقة دامغة. ولعلّ أوباما أدرك مبكراً بحدسه المرهف وقراءته النافذة للعقل الأميركي الحديث، عطش مواطنيه الى شيء كثير من جرعة الحقائق الافتراضية التي تدغدغ مخيلتهم المنهكة بالعطش والتصحّر.
يورد المؤلف عدداً من الأولويات التي يبني عليها دراسته الموثّقة. وهو، إذ ينحو هذا المنحى، يبتغي جراء ذلك، أن يفكك الصورة "المشرقة" التي رسمها أوباما للأميركيين عامة. يجتهد في استخراج الوهم من الحقيقة. والحقيقة من الوهم. وينصرف قبل أي شيء آخر، الى محاولة فك الارتباط بين الولايات المتحدة، كدولة عظمى في التاريخ الحديث، وصورتها الاحتمالية التي نسجها أوباما جيداً ثم جعلها أمراً مرادفاً لتطلعات الناس وأحلامهم حيال إمبراطوريتهم المتصدّعة. والأغلب أنه، بهذا السيناريو التفكيكي، إذا جاز التعبير، يسعى المؤلف الى حمل الأميركيين، على الابتعاد، قدر المستطاع، عن الرهان على مستقبل الولايات المتحدة كما تبدو في العقل المحيّر للرئيس أوباما. أو كما يحبّ هو أن يراها في عقول الأميركيين.

السيناريو المخيف
يفتتح الكاتب، بدهاء مشهود، هذا السيناريو "المخيف"، بالقول أن ما يطح إليه أوباما، في حقيقة الأمر، أن يتمكن خلال ولايته الرئاسية الثانية، كما الأولى، من الانتقال بأميركا من حالة الثراء والقوة والعظمة والتفرّد الى حالة من التضاؤل والانكماش والاكتفاء بأقدار أصغر حجماً وطموحات لا تذهب بعيداً في إعادة تشكيل العالم. ويتوسع في هذا التصور على نحو لم يجرؤ عليه أحد قبله حتى ألدّ أعداء الرئيس. يرى أن من أخطر أهداف الرئيس الصامتة أن تتحول الولايات المتحدة كياناً عاجزاً عن الإحساس بالثقة بالنفس وممتنعاً عن توظيف هذه الأخيرة في سياساتها الداخلية والخارجية. ويتهم الكاتب أوباما بالإسراع في جعل أميركا دولة قوية بين دول قوية مماثلة. ويسيء الظن به الى حد يحمّله مغبّة العمل الدؤوب للانزلاق بالولايات المتحدة في مسار ينحدر بها من أعلى الى أسفل مفسحاً في المجال أمام صعود دول أخرى لم يكن يُعتدّ بها في السابق. وحجته على ذلك أن الرئيس مزمع على هذا النهج بذريعة إحلال ضرب من المساواة والتكافؤ على الساحة الدولية. وفي النتيجة المتأتية عن هذا التصوّر الذي يطلقه المؤلف كالنار في الهشيم، أن أوباما مهووس في داخله بأفكار شريرة جهنمية تؤدي جميعاً الى الاعتقاد بوجوب أن تتلقى الولايات المتحدة ضربة قاصمة على الرأس تفقدها صوابها وتجبرها على اتخاذ مواقف متواضعة تحتاج إليها لكي تهبط من عليائها على أرض الواقع.
إن تقزيم أميركا في هذا السياق، المشبوه، وفقاً للدراسة، هو الذي يحدو بالرئيس الى أن يبرع في إلقاء خطبه الملتبسة التي لا يفقه منها إلا المعاني العاطفية الحالمة التي تخاطب القلق لدى الأميركيين وخوفهم المتشبث بهم مما قد تؤول إليه أحوال الإمبراطورية في هذا الزمن الأصعب. ويصف الكاتب هذا المشهد القاتم الذي يصنعه أوباما بتؤدة، يوماً بيوم وعلى وقع من الصمت الثقيل، بالقول: إن القيام بشرذمة أميركا واستنفادها، وإنهاكها، وبعثرة مجدها وقوتها، ضرب من الجنون المجاني والمرضي من شأنه أن يعيد صوغ الإمبراطورية لتصبح قرية من الصفيح على هضبة معزولة بدلاً من أن تكون مدينة براقة على تلة تشرف على العالم من حولها. ويستطرد المؤلف في تحليله هذا المشهد، أن هذه القرية التي يعمّها الصفيح من أقصاها الى أقصاها ستتحول بالضرورة، في هذا الإطار المنحط، قرية كونية شديدة الخطورة.
واللافت، على هذا الصعيد، أن المؤلف يشتّق عباراته، وهو يرثي مصير أميركا رثاء حزيناً تقشعّر له الأبدان وتدمع له الأعين، من الظلال الداكنة لهذا المشهد المروّع. وكأنه حدث فعلاً، أو كأنه على وشك أن ينقلب حقيقة لا شك في صدقيتها. والأرجح أنه يفعل ذلك من أجل أن يأسر انتباه القارئ، أن يبعث فيه شحنة قوية تؤلبه على أوباما. والأهم أن ينجح في أن يتسلّل الى مخيلته ليوقظه من سباته العميق.
لا يتزحزح الكاتب قيد أنملة عن الالتزام بعنوان الدراسة: "خلخلة الحلم الأميركي". لعلّه بذلك يذكّر المواطنين بالشعار التاريخي الذي وقع عليه الأميركيون منذ القرن التاسع عشر عندما اختاروا أن يصنعوا بلادهم من مكوّنات الحلم. وفي هذا ما يجعل الولايات المتحدة في نظرهم من نسيج الحلم الذي كلما ظنّوا أنه تحقق أدركوا أن أمامهم أشواطاً دون ذلك. الحلم المشرّع على التحقق مراراً وتكراراً لأنه لن يتحقق. كلما خيّل الى الأميركيين أن حلمهم بات قابلاً للتحقق، أيقنوا أنه أصبح أكثر تعذراً. ينتهز المؤلف هذه الالتماعة في المخيلة الأميركية، وقد تلاشى بريقها اليوم، ليقبض على أوباما بالجرم المشهود: السعي الى خلخلة الحلم الأميركي توطئة لحرمان الأميركيين من حلمهم الذي بلغ مرتبة "القداسة" وتخطي عتبة الخرافة الى الأسطورة المكرسة في الذاكرة. وفي هذا ما يبعث على الاعتقاد، وفقاً للدراسة، أن القضاء على الحلم بهذا الشكل الاعتباطي، هو محاولة، في الوقت عينه، لإفراغ الذاكرة الأميركية من تاريخها الأقرب الى ذاتها. ولا غرو في القول، بدت الولايات المتحدة والحلم الأميركي وجهين لعملة واحدة. كانا توأمين في توأم واحد. ظلت هذه الفكرة، حتى ثمانينات القرن الماضي، قابعة في البنية التحتية لذاكرة الأميركيين: الحلم هو أميركا، وأميركا هي الحلم. إذا اختلّ أحدهما، اختلّ الآخر. الحلم هو الممر الإجباري الذي سلكته الولايات المتحدة. وهذه الأخيرة هي الدرب الوحيدة التي وطأها الحلم وهو يقترب من نفسه ويبتعد عنها في آن. من أجل ذلك، يطعن المؤلف في الكيفية التي يقارب الرئيس من خلالها، هذا المرتكز الحيوي الذي يستند إليه الأميركيون في حياتهم اليومية. وقد غدوا على يقين أن هذا الحلم الذي كان يضفي ذات يوم على صيرورتهم كأمة قوية وكأفراد يستحوذون على حرياتهم الشخصية كاملة، دلالة تاريخية أرقى في عالم يشوبه الغموض، أصبح موضع شبهة اليوم. ومع ذلك، لن يكون بمقدورهم أن يفكوا ارتباطاً بنيوياً بهذا الحلم حتى لا يتحولوا أمة وأفراداً بلا حلم. صحيح أن ما يسمّى "الحلم الأميركي" كان صنيعة السلطة السياسية على نحو لم يعد سراً بأي شكل من الأشكال. ولعلّ هذه الصنيعة بالتحديد، أرادتها السلطة أن تتلبّس لبوساً خرافياً أسطورياً بامتياز يملأ الفراغ السحيق في الذاكرة المستحدثة للأمة التي كانت تفتقر بحكم تكوينها الذي يُعزى الى قرون قليلة خلت، الى تاريخ يشبه سواه لدى الحضارات والثقافات الأقدم والأعرق.
ما هو سبيل أوباما الى خلخلة الحلم الأميركي تمهيداً لإسقاطه بالنقاط أو بالضربة القاضية؟ يعدّد الكاتب، في هذا السياق، أسباباً مختلفة يتخذها أوباما وسيلة "جهنمية" لتحقيق "مآربه":
* أولها وأخطرها، على الأرجح، المقاربة "العدوانية" المدهشة التي يتذرّع بها الرئيس لتوظيف التعثّر الاقتصادي العميق واستخدامه ضرباً من أسلحة "الدمار الشامل" لإضعاف الولايات المتحدة والانتقاص من حجمها على الساحة الدولية.
* الكيفية السياسية التي يدير الرئيس من خلالها سياساته المختلفة، أثناء ولايته الرئاسية الثانية وتداعياتها المترتبة عليها للتسبّب بأضرار فادحة يصعب توقع نتائجها الوخيمة على مستوى المصالح الحيوية للولايات المتحدة، في الداخل والخارج، وتحديداً في منطقة الشرق الأوسط.
* التوجّه الملتبس للرئيس لاقتطاع مبالغ طائلة من موازنة القوات المسلحة والترسانة العسكرية على اختلاف محتوياتها وأصنافها ذات التقنية المعقدة المتطورة وعالية المستوى. يرى المؤلف في هذا الإطار، أن هذه السياسة الخرقاء ليست إلا بداية للنيل من عظمة الولايات المتحدة.
* سيناريو "خبيث" لجعل الولايات المتدحة دولة تعتمد، بالحد الأقصى، على الطاقة المستوردة من البلدان النفطية، بدلاً من أن يقدم الرئيس على تفعيل سيناريو مناقض يجنّب الدولة مغبة الاسترهان المشبوه لبارونات وكارتلات البترول ذوي السيطرة الأخطبوطية على الأسواق العالمية.
* ما هو مآل العالم بعد انكفاء الولايات المتحدة عن أداء دورها قوة عظمة تساهم في إحلال التوازن والاستقرار الدوليين. وإلى أي مصير غامض يتجه العالم بعد أن تتحول أميركا دولة ثانوية قليلة التأثير عقيمة الجدوى منتقصة الهيبة والنفوذ. وهل سيكون بمقدور الأميركيين، شعباً وسلطة سياسية، الصمود أمام دول تسير على طريق العظمة والتوسع مثل: الصين والهند و البرازيل وكوريا وسواها من البلدان المرشحة للانتساب الى نادي النخبة الدولية؟
يبذل المؤلف جهداً مضاعفاً لسحب الثقة السياسية والأخلاقية من الرئيس أوباما، وفي ظنه أن هناك فرصة وحيدة وأخيرة لإخراج الولايات المتحدة من غرفة العناية الفائقة. تُشيع الدراسة، في سياقها الداخلي وفي ما يتجاوز أجواءها المشحونة بالقلق والترقب والانتظار، بعداً ضبابياً حزيناً ولهفة على اقتراب اللحظة المصيرية التي ستشهد انسحاب أوباما من مصنع القرار السياسي. ومع ذلك هل ينسحب الرئيس من الذاكرة التي عاث فيها فساداً وفقاً للكاتب؟ يمتنع المؤلف عن الإجابة.
ورغم ذلك، لا يبدو أن بمقدور الإمبراطورية، في أعقاب سلسلة الانهيارات البنيوية التي طرأت على هيكلها "المنيع" خلال العقدين المنصرمين على الأقل، أن تبرأ من الاستفراد بالرئيس، أياً كان، لحمله على الإقرار بمسؤوليته في أخذ البلاد الى الهاوية.
طقس "وثني" بات يلازم الأميركيين، نخباً وعامة على الأرجح، لا خلاص منه إلاّ بإدانة "الزعيم" وتهيئته ليؤدي دور الضحية بروح رياضية. ولكن ما أن تتم التضحية برئيس ويؤتى بسواه حتى يخيّم هذا الطقس من جديد على رغبة المواطنين في تهيئة ضحية أخرى استعداداً للمحرقة الموسمية التي يجري الاحتفال كل أربعة أعوام. والمستغرب أن الرئيس المنتخب، وهو يُسرع الخطى الى جنّة البيت الأبيض، يفعل ذلك على وقع الجحيم التي تترقبه بفارغ الصبر. إنه الرئيس والضحية في آن. ولعلّه الضحية المنتظرة التي تُنتخب رئيساً لممارسة هذا الطقس الذي أخذ يتحول تدريجاً من وثني الى شيطاني. يستجمع الأميركيون فيه "أشلاءهم" للاحتفاء، بصخب، بحرق القادم الجديد الى المكتب البيضاوي. صاحب هذه الدراسة، كما يبدو، يستعجل إنجاز هذا الطقس، منذ اليوم، وكأن رائحة الضحية، وهي تشتعل فيها نيران الإدانة، باتت تخفّف من إحساس الأميركيين بخساراتهم المتفاقمة.

انكشاف النقاش على المصير
تندرج الدراسة المشار اليها آنفا في سياق مديد وعميق من الكتابات والمفاهيم والافكار والتوقعات التي أخذت تنهمر على المجتمع الاميركي بغزارة منذ تولي باراك أوباما سدة الرئاسة. وبالمثل، لم تكن فترة نظيره السابق، جورج بوش الإبن، اقل غزارة بالاصدارات والارهاصات السياسية والاجتماعية والدينية. غير ان هذه الأخيرة بدت ذات بنية فكرية مغايرة من حيث المنحى الذي نحته خصوصا ما يتعلق منها بانكشاف النقاش على مصير الولايات المتحدة في العقدين المقبلين. ولعل الأزمة الاقتصادية والمالية الخانقة التي احكمت قبضتها على عنق الولايات المتحدة، انحرفت بالنقاش نحو مناخ أكثر مدعاة للخوف مما يضمره المستقبل لهذه الامبراطورية المستضعفة. كتب ودراسات متعددة انهالت على رفوف المكتبات في الآونة الأخيرة ففاقمت هواجس المواطنين وايقظت من لم يستيقظ منهم بعد على تساؤلات ومشاهد لا تدعو الى الاطمئنان. من بينها الكتب الآتية:
[ باراك أوباما.. نبؤة وخراب الولايات المتحدة" للكاتب الشهير بوب تيل عن منشورات "نازارين بوكس"، 2013، يفتتح المؤلف دراسته المثيرة للدهشة والامتعاض، بناء على قراءته لشخصية الرئيس من خلال جذوره الثقافية ونضاله ضد التمييز العنصري ونشاطه المكثف المبهم الذي قاده الى البيت الابيض على الرغم من المعوقات القاسية. يرى المؤلف ان أوباما، في سياساته المتبعة، يشكل حلقة هامة وخطيرة في سلسلة من النبؤات التي قد تفتح الابواب على مصاريعها لخراب الولايات المتحدة. اللافت، في هذا الاصدار، ان المؤلف لا يلقي باللائمة على الرئيس أوباما وحده في ما قد تؤول اليه اميركا. لا يستثني شخصية أو حزباً او تياراً سياسياً من قائمته الطويلة، بما في ذلك الحزب الجمهوري الذي يتناوب على السلطة ونظيره الديموقراطي منذ نشوء الولايات المتحدة. لا يجد المؤلف حرجاً، وهو المعروف بكتاباته السياسية النافذة والرصينة، في الخروج عن مفاهيمه وآرائه السائدة، نحو اثارة التساؤل الآتي: هل تنطوي شخصية الرئيس أوباما على ملامح (أبوكالبتيكية) من شأنها ان تسفر عن نهاية الولايات المتحدة؟ وهل يمثل أوباما المسيح الدجال المتوقع ظهوره، بالتزامن مع نهاية العالم، أو إيذاناً باقتراب الخاتمة من هذه الامبراطورية؟ يمارس المؤلف، في هذا الاصدار الذي لا يخلو من التشويق المعاصر الذي يربط بين بعض النبؤات التورائية وسياسات الرئيس أوباما على نحو من البحث الطريف عن دلالة هذه البنؤات في شخصية أوباما، كما يبحث عن تماثل بين هذه الأخيرة والنبؤات. اللافت في هذه المقارنة المستحدثة بين السياسات الاميركية من جهة، والرؤيا التوراتية من جهة أخرى، ان الحافز الأساسي من خلفهما هو ارهاص قوي بزوال محتمل للولايات المتحدة لا يحدد المؤلف توقيتا معينا له. ومع ذلك، ثمة حافز اقوى واخطر، على الارجح، هو الاحساس الذي لا تفسير مؤكداً له لوجوب انهيار اميركا. وكأن هذه الدولة العظمى في التاريخ، بقدراتها ومواردها وتطلعاتها الواسعة، آيلة الى الانهيار بالسرعة عينها التي أوصلتها الى القمة. فرق متعددة وجماعات متكاثرة تنتشر، على نحو علني في الولايات المتحدة، تؤمن بهذه النبؤة المنسوبة الى التوراة ايمانا قاطعاً. لماذا الولايات المتحدة دون سواها؟ وهل تتضمن نهاية الولايات المتحدة بالضرورة نهاية للعالم بأسره؟ يبدو هذا الكتاب ذات فائدة كبرى في دراسة الدلالات المترتبة على المسارب التي تنفذ من خلالها الاساطير القديمة الى الذاكرة الحديثة. وفي اي حال، لا تنفي هذه التصورات شيوع هذه الخرافة بين عدد من كبار الكتاب والجمعيات والمنظمات في الولايات المتحدة.. والمؤكد ان الافراد الذين ينضوون في اطار هذه الجماعات يترقبون نهاية ماسوية للولايات المتحدة. وهؤلاء لا يالون جهدا في تقصي هذا التصور في ما انتقل اليهم من خرافات واساطير. أو في ما يسعون الى تأويله من خرافات التوراة القديمة.
* في دراسة ثالثة بعنوان المخرب الأكبر: حرب باراك أوباما على الجمهورية" للكاتب الاميركي الشهير وصاحب المبيعات القياسية ديفيد ليمباو. عن "منشورات ريغنيري بوكس"، 2012، يعتقد المؤلف، من دون مواربة، ان الرئيس أوباما يضطلع بأخطر مهمة تولاها رئيس للولايات المتحدة، هي أحداث الحد الاقصى من الدمار في بنية الدولة والمؤسسات من خلال الإجهاز على المبادئ الحرة للسوق الاقتصادية والمالية التي اقتضى وجودها نمطاً من الحكومات لا تتدخل في هذا الشأن إلا بأضيق الهوامش. أسواق رأسمالية تنتج الثروة في ظل حكومة تنأى بنفسها عن هذه العملية التلقائية وفقا لمباديء الاقتصادي البريطاني الرائد ادم سميث. تتميز هذه الدراسة بسلسلة مذهلة من الحقائق والممارسات التي تقدم عليها الادارة الاميركية بدماء باردة. من بينها: إمعان الرئيس أوباما في تسليط كبار الموظفين الفيدراليين في المؤسسات الرسمية على رقاب الناس. وذريعته في ذلك انه ينبغي الامساك بمفاصل الدولة بشكل محكم لتبقى الدولة الكيان السياسي الأهم والناظم الأكبر للحياة السياسية الاقتصادية. ولو أدى ذلك الى استحواذ هؤلاء على ضروب من الهيمنة على المقدرات الاجتماعية والسياسية والمدنية. والأكثر مدعاة للقلق في رأي المؤلف، النزعة الرأسمالية ذات المنحى اليساري التي يتمنى بها أوباما جاعلا منها نبراسا لسياساته. والنتيجة كما يقاربها المؤلف أن الارباح الطائلة التي تجنيها الولايات المتحدة تنفق هباء منثورا على الوزارات والمؤسسات العاجزة في الاساس بسبب الحماية المنيعة التي تتلقاها من أوباما. على هذا الأساس من التحليل السياسي الاقتصادي الذي ينتهجه المؤلف، فان اميركا ماضية نحو حتفها المالي. وتشكل هذه المعضلة نوعا من الانتحار الذاتي، وهو امر محتوم في نظر المؤلف، خصوصاً في ظل ادارة أوباما، التي لا تنفك تصر على تطبيق هذه السياسة الشاذة على الرغم من علمها المسبق أنها عقيمة في جدواها. ويعدد المؤلف في هذا الاطار، جملة من الاجراءات التي يعتبرها من صنف الجرائم التي ترتكب بحق الدولة. من بينها:
ـ الخسائر القادمة الناتجة عن الراسمالية "الفضائحية" لأوباما اكثر مما يفصح عنها في وسائل الاعلام. ومعظمها يجري التكتم عنه في نطاق من السرية.
ـ الكيفية المستهترة التي يتصرف أوباما من خلالها لبعثرة الاقتصاد في الدائرة المفرغة. والأدهى انه يتصدى بحزم وقسوة لكل من تسول له نفسه الحد من الهدر.
ـ الانتهاك المتكرر لسلطة القانون والدستور على مرأى ومسمع من الجميع، انصاراً ومناوئين.
ـ الاتيان بأنصاره ومؤيديه من طبقة التكنوقراط والبيروقراط بحجة انهم يتفهمون سياساته ويجيدون التصرف حيالها وتوظيفها في المكان الملائم.
[ تبدو هذه الدراسات الثلاث انها تجنح، ببنياتها الداخلية، نحو مسائل أعمق من الاسباب والأزمات الاقتصادية وابعد من الضائقة المالية التي تحوط بالولايات المتحدة في الدائرتين المحلية والدولية. بدليل ان اصحابها يتشاركون جميعا خوفا دفينا نابعا من ذاكرة مرتعدة تكتنفها الخشية على اميركا في مقبل الأيام. ولو حدث وان تولى موقع الرئاسة زعيم آخر غير أوباما، ديموقراطيا أو جمهورياً، هل كان من شأن هذه الواقعة المفترضة ان تدخل الى قلوب هؤلاء وسواهم شحنة من الطمأنينة "الاستراتيجية" اذا صح القول على احوال الامبراطورية وموقعها على خارطة القوى العظمى؟ الأرجح لا. من شيم الدول الكبرى ذات المد الواسع في الجغرافيا والذاكرة البشرية والثقافة السياسية والانسانية، ان تلقي باللائمة على رؤسائها وملهميها وأبطالها في لحظات الارهاق والترهل والتصدع والانهيار. لعل في هذه النزعة شيئا كثيرا من الاحتكام الى غريزة الموت وغريزة البقاء في آن الغريزتان مردهما الى الاكثار من فرص الحياة والتقليل من فرص الموت.
عندما يلوح على وجه الامبراطورية شبح الانحلال وتعلوه قشعريرة الموت، تنظر الى المرآة وتكذب ما ترى. ثم تتجنب النظر إليها. ثم تروح تبحث عن اسباب محتملة تعزو اليها هذه المسؤولية الجلل. وفي نهاية المطاف لا تجد بديلاً من أن تصب جام غضبها على من يخيل اليها انه يستحق هذه الملامة وهذه الإدانة بجدارة.



 

رابط مختصرhttps://alqudsnews.net/p/40895