راغدة عسيران
أثارت معركة طوفان الأقصى وحرب الإبادة الجماعية الصهيو-أميركية التي تلتها هزّة عالمية تتكشف تداعياتها تدريجيا، فقد ظهرت بعض تداعياتها منذ اليوم الأول، وما زال يعيش العالم على وقع المعركة المباركة وحرب الإبادة المتوحشة.
في فلسطين المحتلة، أفضت هذه المعركة الى تحرير أسرى فلسطينيين من سجون العدو/ حيث ليس هناك أي طريقة لتحريرهم، وخاصة المحكومين بالمؤبدات، إلا عن طريق تبادلهم بأسرى صهاينة يتم اختطافهم من ساحات الحرب. لم يتحرر كافة الأسرى المحكومين بالمؤبدات الى الآن، لكن مجرد أن يتحرر جزء كبير منهم يشكّل طعنة للمنظومة الصهيونية التي اعتقدت منذ إقامة كيانها أن الأسرى الفلسطينيين "إرهابيين" لا يمكن الإفراج عنهم، حتى لو استشهدوا في سجونها، فيظل احتجاز جثمانيهم حتى انتهاء محكوميتهم المؤبدة.
إضافة الى تحرير الأسرى، وقد أعاد كيان العدو اعتقال البعض ممن عادوا الى عائلاتهم في الضفة الغربية، أثارت معركة طوفان الأقصى شرخا واضحا في المجتمع الفلسطيني، بين مؤيدي المقاومة المسلحة والداعمين لمعركة التحرر من الطغيان، وبين المستسلمين للإرادة الأميركية، وهم المتنفذون في السلطة الفلسطينية وأجهزتها الأمنية في الضفة الغربية. أسقطت معركة طوفان الأقصى هذه الفئة المتنفذة، سياسيا، أمام الشعب الفلسطيني بسبب صمتها إزاء المذبحة في غزة، بل إدانة المقاومة، وعجزها المتواطئ عن الدفاع عن الأرض والشعب في الضفة الغربية والقدس.
وقد أشاعت السلطة وأجهزتها الأمنية، بدلا عن مواجهة المستوطنين الهمج لحماية شعبها، أجواء ترهيبية في المجتمع الفلسطيني لمنع أي تفاعل مع المعركة المباركة، وزجّت في سجونها بفئات عديدة من المواطنين، ورفضت تأمين الدعم للعائلات النازحة من مخيمات الشمال، وكأنها تتماهى مع الخطة الصهيونية لمحو هذه المخيمات.
رغم هذه الأجواء الترهيبية والقمع الممنهج للمقاومين، تمكنّت فصائل المقاومة، وخاصة "سرايا القدس"، الجناح العسكري لحركة الجهاد الإسلامي، في مواصلة العمليات ضد العدو، دفاعا عن المخيمات والبلدات ضد اقتحامات جيش العدو، كما تمكّنت من توسيع عملياتها من شمال الضفة الى جنوبها مع تشكيل كتائبها وسراياها (رام الله وبيت لحم خصوصا) لمواجهة المحتل ومواصلة اشغال جيش العدو واشعال الأرض تحت أقدامه.
في فلسطين المحتلة عام 1948، يسيطر الجو الإرهابي الصهيوني على المجتمع الفلسطيني حيث يتم اعتقال العشرات من أبنائه بسبب مواقفهم السياسية وحضورهم الاجتماعي، كما يتم تدمير قراهم في منطقة النقب، لكن ما زال المجتمع يقاوم الصهينة والتغييب.
منذ السبع من أكتوبر 2023، يعيش كيان العدو أزمات ممتالية، وجودية، سياسية، أمنية واقتصادية، رغم الدعم الهائل الذي أمّنته له الولايات المتحدة والدول الأوروبية الاستعمارية، بالأسلحة والمال والبشر والسياسة، إضافة الى بعض الدول الأخرى، منها دول عربية وإسلامية.
ويخشى المجتمع الاستيطاني اليوم التالي للحرب، بسبب العزلة الدولية التي تجلّت في بلدان عدة ومجتمعات واسعة في العالم، والتي قد تؤثر على اقتصاده ومشاريعه التوسعية وسمعته التي أرادها أكثر نقاءا لأنه حارب "الإرهاب". لقد بدأ تفكّك مجتمعه الاستيطاني، بين الليبراليين والفاشيين، بين "البيض" و"الملوّنين"، ويعيش جيشه ومؤسساته كافة صراعات فكرية وسياسية وقد تصل الى الاغتيالات، كما يعيش أزمات نفسية عميقة أدّت الى انتحار عدد من الضباط والجنود، بسبب ما ارتكبوه من فظائع في قطاع غزة. لكنه من جهة أخرى، يواصل توحشّه مدعوما من الدول الغربية، في كل مكان يصل اليه جيشه وجهاز مخابراته، هربا الى الامام، كما يفعل كل الخاسرين، معتقدا أن بإمكانه محو تداعيات يوم السابع من أكتوبر.
أظهرت الدول العربية والإسلامية عجز بعضها وتواطؤ غيرها، بسبب تبنّيها شعارات تنفي علاقة شعوبها بالقضية الفلسطينية، قضية العرب والمسلمين الأولى، وترفض النظر الى التهديد الوجودي الذي يشكّله الكيان الصهيوني على أمنها وسيادتها، وترفض اتخاذ العبر من العلاقة بين الكيان الإرهابي الصهيوني بالدول الغربية الاستعمارية، فظلّت رهينة تبعيتها للغرب الاستعماري. بقي التفاعل الشعبي مع معركة طوفان الأقصى وحرب الإبادة الصهيو-أميركية ضعيفا ومحليا، ما فسّره البعض بأنه ناجم عن القمع السلطوي في معظم الدول، والذي يختلف جذريا عن القمع في الدول الغربية، لكن قد تكون الأسباب أبعد من القمع السلطوي، أي نتيجة لعقود من الزمن من تربية انعزالية ومعادية لمعاني الأمة والتحرر والكرامة.
لكن من جهة أخرى، أظهرت جبهة الإسناد العربية والإسلامية، أن هذه المعاني ما زالت تتصدّر تفكيرها وعملها، كما أظهرت أهمية وجودها وصمودها أمام الهجمة الشرسة الأميركية الصهيونية، التي رضخت أمامها كل الدول والحركات السياسية الأخرى، وقد تشكّل بوادر للتحرر القادم من الأعداء كافة.
شهدت جبهة الدول الغربية، منذ بداية الحرب الروسية-الأوكرانية المستمرة، أزمة سياسية واقتصادية، أضافت حدّتها معركة طوفان الأقصى، التي اعتبرتها الدول الغربية المؤسسة للكيان الإرهابي، معركتها لأنها تهدد استقرارها في دول المنطقة.
برزت بشكل واضح الفجوة بين الشعوب المؤيدة لفلسطين والمتبنّية للحقيقة الفلسطينية، والتي لم تعد تخشى الاتهام بمعاداة السامية، ذلك الاتهام الذي فرض الكذب والتماهي مع العدوان المستمر على فلسطين والمنطقة منذ أكثر من قرن من الزمن. رغم عدم ترجمة هذا التحوّل الى أروقة الحكم في الدول الغربية بعد، إلا أن الانتخابات الأخيرة في ايرلندا، وموقف الحكومة الاسبانية ضد تسليح الكيان المتوحّش، وعدم رضوخ بعض السياسيين الأوروبيين لتهمة "معاداة السامية"، والمطالبة بعزل الكيان الصهيوني من المباريات الأوروبية، ونجاح ممداني في انتخابات عمدة نيويورك، كل يؤشر الى تصدّع جبهة الأعداء، وتفاقم الأزمات السياسية والاقتصادية، والتي لا يمكن حلّها بمزيد من القمع الإعلامي والبشري.
وتعبيرا عن هذه الأزمات، تصاعدت الموجة المعادية للاسلام والمسلمين والعرب في فرنسا وألمانيا وبلجيكا، بحجة محاربة ما يسمى "تمجيد الإرهاب"، أي دعم المقاومة الفلسطينية والعربية ضد الإرهاب الصهيوني. في ألمانيا ، يتم الضغط على طالبي الجنسية العرب والمسلمين بالاعتراف بالكيان الصهيوني مسبقا، وأعاد التيار النازي المعادي للأجانب "الملوّنين" يشكّل تهديدا للديمقراطيات الغربية، التي أثبتت أنها فاقدة للإنسانية والأخلاق.
على المستوى العالمي، خسرت الأمم المتحدة سمعتها وفعاليتها بسبب هيمنة الدول الغربية الاستعمارية على قراراتها وتحركاتها وبياناتها. وظهر جليا غياب القانون الدولي والمحاكم الدولية وغياب مبدأ العدالة الذي كان شعارا ترفعه المؤسسات عند حاجة الدول الغربية اليه. لقد باتت مؤسسات الأمم المتحدة تتآكل بسبب عجزها أمام القوى الغربية التي تتحكم بالمال والسلاح، وبسبب فساد موظفيها في عدة دول، حيث يعمل بعضهم كجواسيس ويتاجر البعض الآخر بالسلع والبشر. تحاول هذه المؤسسات ترميم صورتها ببعض التصريحات المؤيدة للشعب الفلسطيني، لكنها تلفظ أنفاسها الأخيرة. لقد ثبُت أن النظام العالمي ما بعد الحرب العالمية الثانية نظام فاسد يعمل أولا وأخيرا لترسيخ الهيمنة الغربية على العالم وليس لدعم تحرر الشعوب من عبودية المال والسلاح.
