/مقالات/ عرض الخبر

ما جدوى الاعتراف بـ"الدولة الفلسطينية" وسط إصرار الكيان على إكمال "مشروعه"؟

2025/11/07 الساعة 02:48 م
عنف المستوطنين الصهاينة في الضفة
عنف المستوطنين الصهاينة في الضفة

أسماء بزيع

منذ بدء ما يُسمّى بالهدنة أو إتفاق وقف إطلاق النار، لم تتوقف الخروقات "الإسرائيلية" يومًا؛ اغتيالاتٌ، اجتياحاتٌ محدودة، طائراتٌ تحوم في سماء القطاع، وحصارٌ خانقٌ يُعاد تشكيله بأساليب "ناعمة". وهذه ليست أخطاء عابرة، بل إشاراتٌ صريحة على أن الكيان لا يعترف إلا بما يرسّخ هيمنته، ولا يفهم من "التهدئة" إلا أنها فرصة لإعادة ترتيب أدوات القتل.

الكيان لم يبدِ في تاريخه استعدادًا لأيّ تسوية حقيقية، لأنّ مشروعه لم يكن يومًا "دولةً داخل حدود"، بل "كيانًا فوق حدود". مشروعه يقوم على ثلاث ركائز لا تنفصم: التمدّد، والسيطرة، والتفريغ الديموغرافي. وكلّ خطوةٍ ميدانيةٍ يخطوها على الأرض تُترجم هذه الأركان بدقة هندسية مذهلة: من القدس إلى الخليل، ومن رفح إلى جنين، تُعاد هندسة الوجود الفلسطيني لتتلاءم مع "خريطة الهيكل" لا "خريطة الدولة".

أي أنّه، في جوهره، لا يَقبل دولةً فلسطينية، إلا إن كانت "سلطة" وظيفية، منزوعَة السيادة، تُدار بحدودٍ يضعها هو، وبأمنٍ يشرف عليها هو، وباقتصادٍ يتنفس من رئته. فكيف يُبنى كيانٌ حرٌّ على ترابٍ ما زال يُقصف؟ وكيف يُرسم مستقبلٌ لأمةٍ تُراد لها أن تُوقّع على خرائط موتها؟

يأتي الحديث اليوم عن اعترافٍ بـ"دولة فلسطينية"، إلى جانب الاعترافات المتتالية- الأوروبية منها على وجه الخصوص-  في لحظةٍ تكتمل فيها دوائر الاحتلال: تهويدٌ متسارع، استيطانٌ متغوّل، حصارٌ شامل، ومجازر تُبثّ على الهواء مباشرة. تُمنَح "الدولة" ورقيًا، فيما تُسحق أرضها تحت جنازير الجرافات وتُمحى خرائطها من الوجود. أليس هذا ما يُسمّى في السياسة الدولية "شرعنة الوهم"؟

وفي المقابل، يُراد للاعترافات أن تكون صكوك طمأنة للعالم المرهق من الدماء، أكثر منها مفاتيح خلاصٍ لشعبٍ محاصر. فالدول التي تعترف، لا تملك آلية تنفيذ، ولا تتجرّأ على ربط اعترافها بإجراءاتٍ عقابية ضدّ الاحتلال. هي كلماتٌ تُلقى في الهواء، في وقتٍ يتغذّى فيه المشروع الصهيوني من كلّ فراغٍ سياسي، وكلّ جملةٍ دبلوماسيةٍ "فضفاضة" لا تُلزمه بشيء.

فالاعتراف بلا أدوات ضغطٍ حقيقية يشبه منح المريض شهادة "تعافٍ" فيما الورم ما زال يتمدّد في الجسد. إنّ العالم الذي اعترف بـ"دولةٍ فلسطينية" على الورق، هو ذاته الذي يصمت على إبادة غزة، ويُبقي الحدود مغلقةً، والممرات الإنسانية مشروطةً، والاحتلال في موقع المتحدّي لا المتهم والحصار محكم.

إذن، ليست المسألة اعترافًا شكليًا بقدر ما هي رغبةٌ دولية في غسل اليدين من مأساةٍ تتكرّر منذ أكثر من 77 عامًا. يريد الغرب أن يقول: "قمنا بواجبنا الأخلاقي"، بينما يُكمل الكيان مشروعه بدمٍ بارد. أمّا الاعتراف الحقيقيّ لا يأتي أيضًا من عواصم الغرب، بل من إرادة الصمود في غزة، من وجع الخيام في رفح، من حجارة نابلس وجنين، ومن كل أمٍّ فقدت ابنها ثم وقفت لتقول: "ما زال لنا وطن".

منذ "أوسلو" حتى اليوم، يتكرّر المشهد ذاته: وعودٌ بالسلام تُقابَل بوقائع ميدانيةٍ تلتهم الأرض. كلُّ اتفاقٍ يولدُ ميتًا، لأن من وُقّع معه لا يرى في السلام إلا غطاءً للحرب. فما جدوى الاعتراف إذًا، إذا كانت الدولة المنشودة تُقام فوق أنقاضٍ لم تبرد بعد، وإذا كان الاحتلال ذاته هو من يرسم حدودها، ويفرض شروط وجودها؟

إنّ المعادلة اليوم صريحةٌ أكثر من أي وقتٍ مضى:

كلّ "اعترافٍ" لا يُتبَع بعقوباتٍ، لا يُقيّد جيش الاحتلال، لا يُوقف التمويل، ولا يُفكّ الحصار، هو ورقةٌ في دفتر التضليل الدولي، لا أكثر. وحتى تُصبح "الدولة الفلسطينية" واقعًا لا شعارًا، لا بدّ أن يُعاد تعريف ميزان القوة، وأن يُفهَم أنّ الحرية لا تُمنَح من الذين يحتكرون القيد، بل تُنتزع حين تنكسر شرعيتهم.

الكيان لم يُخفِ يومًا مشروعه: مشروع الإلغاء، والإحلال، والتمدد، وما الهدنة إلا استراحةُ مقاتلٍ في حربٍ لم تتوقف. وفي مواجهة مشروعٍ كهذا، لا تُجدي الرموز، بل يُجدي الثبات. لأن فلسطين لا تُنال بقرارٍ من مجلسٍ، بل بصرخةٍ من قلبٍ مؤمنٍ بأن الهدنة، في عرف الاحتلال، ليست سوى فصلٍ آخر من الحصار.

فما جدوى الاعتراف إذًا؟

حين يكون العالم يكتب "دولة فلسطين" بالحبر، بينما يكتب الكيان في الوقت ذاته على الأرض بخطٍّ من نارٍ وحديد.

رابط مختصرhttps://alqudsnews.net/p/220976

اقرأ أيضا