راغدة عسيران
لم تتوقف المقاومة في قطاع غزة، وفي سائر المناطق الفلسطينية المحتلة، بعد احتلالها من قبل العدو الصهيوني. لقد سطّر المقاومون صفحات مضيئة في تاريخ الشعب الفلسطيني، والتي تجلّت بمعركة "طوفان الأقصى" الخالدة، وأثبتت تجذّر روح المقاومة وتشعبها على امتداد الوطن المحتل.
قلّة هي الكتب التي تروي وتوثّق العمل المقاوم في المكتبة العربية، وخاصة العمل المقاوم الفلسطيني، رغم أهميتها التاريخية والتثقيفية والاجتماعية، وخاصة في زمن انحراف البوصلة عن فلسطين وضياع الثوابت الوطنية والقيم الإنسانية الحامية للكرامة. لكن تظل هذه الكتب القيّمة تصدر بين الحين والآخرأ لتذكّر القارئ العربي معاني الفداء والشهادة والحرية وتمنح المقاومين، الشهداء والأسرى والمحرّرين، حقّهم في مسيرة شعبهم وأمتهم التحررية.
من بين الكتب التي صدرت حديثا (2021) والتي وثّقت العمل المقاوم في قطاع غزة، كتاب "سُحُب الجحيم" من إصدار الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، وهو "دراسة توثيقية لتجربة العمل الفدائي في المنطقة الوسطى بقطاع غزة (1967-1973)" من إعداد خليل خليل وقاسم بركات، وتقديم القائد الأسير أحمد سعدات، الأمين العام للجبهة.
أهدى المؤلفان الكتاب الى "كل المؤمنين بالثورة والبندقية.. الحالمين بالحرية... الى كل شهداء الحرية، الى الأسرى خلف القضبان" واقتبسا عنوان الكتاب "سحب الجحيم" من الأسم الذي أطلقه "الرفيق محمد صالح مصلح أبو النور على العمليات التي نفذتها المجموعات المقاتلة التابعة للجبهة الشعبية في تلك الفترة" وأعلنا أن "الهدف من الكتاب الحفاظ على ما تبقى من ذاكرة الثورة وحمايتها من خطر النسيان والتبدد.." خاصة وأن حملة "التشويه والإساءة" لا تزال شرسة.
تكمن أهمية الكتاب بالمصادر التي جمعها المؤلفان وهي مصادر بشرية أولا، أي المقابلات التي أجرياها مع مقاومين أسرى محررين، شاركوا في معظم العمليات الفدائية التي وُثقت أحداثها ما بين 1969 و1972. "قليل منهم ما زالوا أحياء إلى يومنا هذا، وشكلوا لنا الشهود الحقيقيين والمصدر الأساس في توثيق التجربة والخروج بهذا الكتاب." كما يوفّر الكتاب معلومات دقيقة عن المقاومين، الشهداء والأسرى الذين تم تحريرهم لاحقا، وكذلك عن الشخصيات التي جاء ذكرها في النص، في الهوامش العديدة التي تشكّل موسوعة مختصرة تتجاوز هذه الفترة الزمنية.
تكمن أيضا أهمية الكتاب بأنه يوثق عمليات المقاومة في قطاع غزة، وتحديدا في المنطقة الوسطى، مباشرة بعد الاحتلال الصهيوني للقطاع ولصحراء سيناء في يونيو 1967. لكن يعود المؤلفان الى ما قبل الاحتلال الصهيوني، الى زمن الإدارة المصرية للقطاع، ويصفا وضع مخيمات اللجوء، وكيف تم إسقاط مشاريع التوطين الصهيو- أميركية في سيناء، وتأسيس حركة القوميين العرب بعد العدوان الثلاثي في العام 1957، وتعاون الحكم المصري مع القوميين، ونشأة منظمة التحرير الفلسطينية بقيادة أحمد الشقيري في العام 1964 وجيش التحرير الشعبي، ثم في العام 1967، الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين.
إضافة الى العمليات النوعية التي نفذها مقاتلو الجبهة الشعبية، الفردية والجماعية، في المنطقة الوسطى، مباشرة بعد الاحتلال الصهيوني، والتي كان من ضمنها اغتيال عدد من الضباط الصهاينة الكبار (كولونيل صهيوني اسمه ديفيد، الحاكم العسكري للمنطقة الوسطى الكابتن "أبو النور"، ضابط المخابرات "سلمون" وغيرهم)، وثّق الكتاب رحلة أول دورية نجحت في الوصول الى قطاع غزة والقادمة من عمان، بقيادة الرفيق عبد العزيز الميناوي* في العام 1969، وكانت مهمتها نقل الأسلحة وتدريب المقاتلين وقيادة العمل العسكري في القطاع.
أبحرت هذه الدورية من ميناء صيدا في 15 مايو/أيار 1969 للمرة الثانية، بعد فشل الرحلة الأولى، ووصلت قبالة شاطئ دير البلح و"بدأت مرحلة جديدة من العمل العسكري" حيث نفذّ المقاومون عملية "العمدان،" أول العمليات النوعية التي "نفذتها مجموعة من الرفاق منهم عبد العزيز الميناوي، محمد أبو النصر، فاروق المصري في 5 يونيو 1969". وبعد بضعة شهور، وبتاريخ 30/9/1969، تم اعتقال الرفيق عبد العزيز الميناوي وهو في طريقه، مع آخرين، الى الأردن عن طريق الصحراء.
يسرد الكاتب رحلة الضياع والتيه خلال 45 يوما في الصحراء، وخيانة بعض أفراد العشائر لهم وتسليمهم للصهاينة، قبل وصولهم الى إيلات. فكانت قيادة الجبهة الشعبية قد قررّت إخراج هذه المجموعة من القطاع لحماية باقي المجموعات من الملاحقة وتخفيف الضغط الأمني الصهيوني على الشعب في قطاع غزة.
(*) التحق الشهيد عبد العزيز الميناوي خلال اعتقاله، بصفوف حركة الجهاد الإسلامي في فلسطين. فأفرج عنه في العام 1985 بصفقة تبادل الأسرى، وشغل مناصب قيادية عدة في الحركة، أبرزها مسؤوليته عن الدائرة الثقافية. كان عضواً في المكتب السياسي للحركة حتى العام 2023، واستشهد إثر العدوان الصهيوني على مقر الأمانة العامة للحركة في دمشق، بتاريخ 14/11/2024، مع ثلة من كوادر الحركة.
يصف الكتاب البيئة الاجتماعية في مخيمات القطاع ويسرد سيرة بعض المقاومين في الجبهة وبعض الشخصيات الوطنية، كالمعلم "دغيش" أبو حسام، "الذي تلقى مئات الشباب دروسهم الأولى في حب الوطن على يديه". في المناسبات الوطنية كان يقف ليلقي دروسه الحماسية، "غير آبه بسياسة الأونروا وبإجراءاتها المجافية لأي عمل تعتبره تحريضيا" ، أمام طابور الصباح في المدرسة الاعدادية للاجئين في مخيم النصيرات. ويروي قصة المناضلة الفتحاوية عايدة سعد التي ألقت قنبلتين على الآليات العسكرية الصهيونية في مارس 1969. لقد استشهد ثلاثة من أشقائها خلال العدوان الثلاثي. فذاع خبر العملية وخرجت مدارس النصيرات في مظاهرة تهتف "يا عايدة يا بنت غزة، كلك شرف، كلك عزة". اعتقلت المقاومة عايدة سعد وتم نسف منزلها، وحكم عليها بالسجن 20 عاما، قضت منها عشر سنوات.
ومن بين النساء التي يسرد المؤلفان بطولاتهن وعذاباتهن في السجن، "الرفيقة عايشة خلف"، التي اعتقلت أكثر من مرة، منذ ديسمبر/كانون الأول 1969. اعتقلت في 5/11/1971، بعد أسبوعين من اغتيال زوجها داوود خلف. في ذلك اليوم، خطف الجنود الصهاينة ابنها أحمد وعمره 14 يوما، ووضعوه في السجن في قسم الأسيرات، دون معرفتها، وذلك للضغط عليها خلال التحقيق. "كان اعتقال أحمد سابقة لم يعرفها تاريخ البشر". تم تمديد الاعتقال الإداري "إلى أن أمضت الرفيقة عايشة في السجن ثلاث سنوات ونصف، بعدها تم الافراج عنها، وعن ابنها أحمد، الذي أمضى سنواته الأولى في السجون والزنازين".
كثيرة هي القصص التي يسردها المؤلفان عن السجون والمعتقلين، والاعتداءات على الأسرى وأنواع التعذيب خلال التحقيق. يروي مثلا كيف تم إعطاء حبات الهلوسة لانتزاع اعترافات من الأسرى، كما حصل مع الأسير "محمد عليان أبو الحر" (اسم مستعار أمام التحقيق). بالمقابل، يروي الكتاب عملية الهروب من السجن التي نفذّها المقاوم أحمد عمران، الذي اعتقل وهو مصاب، فتم نقله الى المستشفى. لم يتمكن رفاق الأسير من تهريبه قبل نقله الى سجن عسقلان، إلا أن الأسير تمكّن من الهرب في العام 1972 في سيارة تنقل الخبز للسجون. فهبط في غزة واستطاع الاختباء لمدة 6 أشهر قبل أن يتم محاصرة مخبئه. لم يسلّم نفسه وقاتل حتى تم استهدافه بعدة صواريخ في 17 يوليو 1972.
في تلك الفترة، مارس الصهاينة كل الأعمال الوحشية ضد الشعب الفلسطيني، ظنا منهم أنهم سيتمكنون من إرساء "سلامهم" بقوة السلاح ومن خلال عملائهم. لقد قتلوا وأعدموا أمام الناس المقاومين أو حتى من اتهموهم بمساعدة الفدائيين، كما جرت اعدامات علنية امام الناس في 13 أكتوبر 1970، وحاولوا عن طريق العملاء الإيقاع بالفدائيين، لكن نجح الفتى سلامة العروقي في استدراج الضابط المشغل للعملاء إلى "كمين محكم نصبه مغاوير الجبهة على الطريق العام" وقتله، وتم من ناحية أخرى قتل العميل الذي وشى بالقائد العسكري للجبهة محمد أبو عتيق (الشيبوب).
بعد توثيق هذه التجربة القصيرة نسبيا (ما يقارب الخمس سنوات أو أقل فعليا)، يصل الكاتبان الى نتائج واستخلاصات أهمها، أولا، أن الجبهة الشعبية في قطاع غزة شكّلت "سدا منيعا لإفشال مخططات العدو السياسية والعسكرية، والتي كانت تستهدف تدجين القطاع". وثانيا، حجم التشويه والإساءة التي لحقت بالتجربة وبأبطالها، لإبعاد الناس عن المقاومة ومحاصرتها. وثالثا، شدّدت الجبهة على العمل العسكري "على حساب الاهتمام ببناء التنظيم" فكان العمل العسكري مقياس النضال، ما أضعف النشاط السياسي. رابعا، "برز تنظيم الجبهة قوة عسكرية أولى في قطاع غزة في الفترة التي يغطيها الكتاب" وكان هناك تنسيق بين الإذرع الفاعلة، وتم تنفيذ عمليات مشتركة خصوصا بين الجبهة وقوات التحرير الشعبية. خامسا، "لعبت الجماهير دورا حاسما في تجربة العمل الفدائي وشكلت الحاضنة الشعبية للمقاتلين والخزان الذي تستمد منه الثورة وجودها".
في الختام، يوثق الكتاب صفحة مضيئة من بداية المقاومة الفلسطينية، بعد الصدمة التي تلقاها العالم العربي والإسلامي إثر حرب حزيران 1967، واحتلال كامل فلسطين ومناطق عربية أخرى. ثم تراكمت التجارب، كما يكتب القائد الأسير أحمد سعدات في المقدمة : "وما حالة المقاومة اليوم سوى نتاج لتراكم إنجازات المحطات الكفاحية المتعاقبة" الى أن وصلت الحالة الجهادية الى أن يتلقى الكيان الصهيوني الصدمة الأقوى منذ إقامته على أرض فلسطين، في معركة "طوفان الأقصى" المباركة، وقد يتلقى صدمات أخرى، قبل انهياره تماما. رغم التشويه والإساءة للمقاومة والمقاومين اليوم من قبل جهات انخرطت في المشاريع الصهيو-أميركية، كما فعلت الأمس، ستبقى المقاومة وحاضنتها الشعبية مستمرة حتى تحرير فلسطين وكافة الأراضي العربية المحتلة.


