وكالة القدس للأنباء - متابعة
التطورات الأخيرة في لبنان – قرار الحكومة الذي وضع، ولو من الناحية النظرية، جدولاً زمنياً لتفكيك سلاح حزب الله؛ الحادثة في وادي زبقين التي قُتل فيها ستة جنود من الجيش اللبناني، والتي كشفت عن ازدياد النشاط الحكومي ضد مخازن السلاح التابعة للحزب في الجنوب اللبناني؛ التقارير بشأن إبعاد مقربين من حزب الله عن مناصب أساسية في المؤسسة الأمنية اللبنانية؛ والرسالة الحازمة لإيران في أثناء زيارة علي لاريجاني لبيروت – أمور كلها تشكل واقعاً سياسياً، وربما أمنياً في المستقبل، مختلفاً جذرياً عمّا واجهته إسرائيل خلال العقود الأخيرة
يُذكر أن النتيجة الفعلية لحرب لبنان الثانية (2006) حُسمت بعد عامين، في أيار/مايو 2008، عندما هزم حزب الله بسهولة السلطات اللبنانية التي حاولت تحدّي سيطرته على مفاصل رئيسية، مثل المطار. الآن، تشير الاتجاهات الناشئة إلى أن الحملة التي خاضتها إسرائيل في خريف 2024 تُترجَم بالتدريج، على خلفية الغضب المكبوت في لبنان منذ وقت طويل، وخصوصاً منذ الانفجار المدمر في مرفأ بيروت، قبل خمسة أعوام، إلى ضربة جوهرية لمكانة حزب الله وتغيير في موازين القوى بينه وبين الحكومة.
مع ذلك، فإن هذا الوضع يتطلب من إسرائيل الحذر والصبر والحكمة السياسية، كما أن استمرار استخدام القوة والسيطرة على نقاط ما وراء الحدود ما زال مهماً في هذه المرحلة، من أجل اظهار الثمن الذي قد يدفعه لبنان إذا اندلعت مواجهة واسعة جديدة مع إسرائيل. وفي الوقت عينه، يجب البحث في سبل دعم القوى الساعية لتقويض القوة العسكرية لحزب الله، والاستمرار في حرمان إيران من استخدامه كوكيل لها. إن غياب أي ردّ من الحزب خلال حرب "الـ12 يوماً" وما تلاها، هو أحد أبرز جوانب الحملة، ويعكس تآكل قوة حزب الله وتعزيز قوة الردع الإسرائيلية، وكذلك المعارضة الواسعة في لبنان لجرّ البلد إلى دمار جديد.
إن دعم إسرائيل لموقف الحكومة اللبنانية واضح وبديهي، وعمل الجيش الإسرائيلي المستمر ضد بنى حزب الله ومحاولاته إعادة توسيع وجوده في الجنوب وبناء قوته العسكرية يخدم جهود الحكومة اللبنانية. لذا، لا حاجة إلى مظاهر علنية لدعم مباشر من إسرائيل قد يستغلها حزب الله، لكن يمكن ترك أفق مفتوح لإمكان العودة إلى الحدود الدولية مستقبلاً. وفي موازاة ذلك، يجب السماح للضغط الذي تمارسه الولايات المتحدة ودول أوروبية رئيسية، وبشكل خاص أطراف إقليمية، مثل السعودية والإمارات، باستخدام أدوات ضغط وحوافز اقتصادية للبنانيين، بما في ذلك داخل الطائفة الشيعية، إزاء الراغبين في الانفكاك من قبضة إيران وحزب الله، وهو ما يقوّي موقف الحكومة. وثمة عنصر إضافي محتمل هو دمج لبنان في منتدى غاز شرق المتوسط.
👈تراجُع مكانة حزب الله كقوة مهيمِنة ومستقلة في لبنان
هناك جملة من التطورات المهمة في الآونة الأخيرة تشير إلى تحولات جوهرية في مكانة حزب الله في المشهد السياسي والشعبي اللبناني، على الرغم من وجوب الحذر من المبالغة في تقدير تأثيرها في حجم التهديد الذي ما زال قادراً على تشكيله لإسرائيل. ومن أبرز المؤشرات:
قرار الحكومة اللبنانية (5 آب/أغسطس 2025) بشأن تكليف الجيش الاستعداد لتفكيك كل القوى المسلحة، بما فيها حزب الله، قبل نهاية العام.
تبنّي الحكومة اللبنانية (7 آب/أغسطس) وثيقة الإطار التي عرضها على لبنان السفير الأميركي في تركيا، توم برّاك، الموفد الخاص إلى سورية ولبنان، والتي تضمنت خطة من أربع مراحل لتطبيق القرار. وعلى الرغم من انسحاب وزراء حزب الله من جلسة الحكومة، ومن الاحتجاجات التي ينظّمها الحزب، معتبراً أن نزع سلاحه هو استسلام لإسرائيل، فإن هذا لم يوقف القرارات.
إعلان مقتل ستة جنود لبنانيين جرّاء انفجار في أثناء تفكيكهم مستودع سلاح – يُفهم أنه تابع لحزب الله – في وادي زبقين بالقرب من مدينة صور (9 آب/أغسطس). هذه الحادثة أكدت وجود نشاط ملموس للجيش اللبناني، بالتعاون مع قوات اليونيفيل، ضد بنى الحزب في المنطقة، وأظهرت أيضاً أن الحزب ما زال يحتفظ ببنى عسكرية في الجنوب.
تقارير غير رسمية بشأن إقالة ماهر رعد، رئيس مكتب استخبارات الجيش اللبناني في الضاحية (معقل حزب الله) منذ سنة 2017، بسبب شبهات في قُربه من قيادة الحزب.
الرسالة الصارمة التي وجّهها الرئيس اللبناني جوزيف عون ورئيس الحكومة نواف سلام إلى رئيس مجلس الأمن القومي الإيراني، علي لاريجاني، خلال زيارته لبيروت (13 آب/أغسطس)، في محاولة لعرقلة قرار تفكيك سلاح حزب الله، إذ أكّدا بشكل علني أن لبنان لن يقبل تدخلاً إيرانياً في قراراته السيادية، ولن يسمح بأن تكون علاقاته مع إيران رهناً بمكانة حزب الله.
إن نقمة شرائح واسعة من اللبنانيين على قبضة حزب الله ليست جديدة، فقد تجلّت في احتجاجات في نهاية العقد الماضي، وتصاعدت بعد انفجار مرفأ بيروت (آب/أغسطس 2020)، المرتبط بتخزين 2750 طناً من نيترات الأمونيوم لمصلحة الحزب، وظهرت أيضاً في نتائج الانتخابات النيابية (أيار/مايو 2022). لكن على الرغم من الضربات التي وجّهتها إسرائيل في أيلول/سبتمبر 2024، فإن الحزب حافظ على قوته العسكرية، وعلى نفوذه السياسي وهيمنته الخطابية، كرمز لـ"المقاومة". الآن، تتوسع الشروخ في بنيته، وفي صورته، على الرغم من أن مكانته لا تزال بعيدة عن الانهيار.
👈دلالات لإسرائيل: أهمية الاستمرار في إظهار القوة العسكرية
تكبّد حزب الله خسائر كبيرة في حرب لبنان الثانية (2006)، وتعرضت الضاحية للدمار، حتى إن حسن نصر الله اعترف أنه لو علِم بردّ إسرائيل لما نفّذ عملية الأسر. لكن بعد عامين فقط، في أيار/مايو 2008، برز الحزب كمنتصر حاسم عندما أحبط بالقوة محاولة الدولة سحب بعض صلاحياته (المطار، وشبكة الاتصالات)، ومنذ ذلك الحين، امتنع من إشعال مواجهة واسعة، لكنه ركّز على بناء قوته، تحضيراً لمواجهة مع إسرائيل، أو كجزء من استراتيجية إيران.
اليوم، الوضع مختلف: فالضربة التي وجّهتها إسرائيل أشد كثيراً من سنة 2006؛ القيادة العليا اجتثت، مقتل أو جرح الآلاف من مقاتليه، بنيته التحتية دُمّرت، والجيش الإسرائيلي دخل إلى الجنوب اللبناني بعمق أكبر، والنتيجة أن الحزب لم يردّ على عملية "شعب كالأسد"، ولا على التدخل الأميركي في إيران – وهو الموقف الذي بُنيت قوته خصيصاً له. علاوةً على ذلك، يدرك الحزب وإيران حجم الاختراق الاستخباراتي الإسرائيلي، بعد سلسلة من الاغتيالات الدقيقة، وهذا يفسّر أيضاً حذر "حماس" من إشراكه في بعض القرارات.
بعكس حرب 2006، لم تكتفِ إسرائيل بوقف إطلاق النار والانسحاب، بل واصلت وجوداً طويل الأمد خلف الحدود وتكثيف العمليات النوعية في عمق بيروت. إن استمرار الضغط العسكري المدروس، من دون تصريحات متبجّحة، يدفع الجيش اللبناني واليونيفيل إلى القيام بما لم يقوما به سابقاً: تفكيك البنية العسكرية لحزب الله في جنوب الليطاني.
👈الحاجة إلى الصبر
على الرغم من التحولات الكبرى، فإنه لا يمكن توقُّع تغيير استراتيجي سريع. فالمشهد اللبناني معقّد، وهناك مصالح محلية ودولية عديدة متداخلة، وهي في أغلبيتها لا ترغب في انفجار واسع. ما زال حزب الله يحتفظ بقوة عسكرية كبيرة، قد يوجّهها ضد الجيش اللبناني، أو إسرائيل، كذلك يحتفظ الحزب بقاعدة شعبية معتبرة. وهو يحاول الآن الاكتفاء بالاحتجاجات، لكن أي استعجال حكومي في المواجهة قد يدفعه إلى التصعيد.
لذلك، على إسرائيل أن تتحلى بالصبر، وأن تتجنب التصعيد الزائد، وتحافظ على التنسيق مع الولايات المتحدة وقوى إقليمية ودولية، بما يسمح للحكومة اللبنانية بمواصلة خطواتها بشكل تدريجي وحذِر.
👈تفعيل الأدوات الدبلوماسية
إن دور المسار الدبلوماسي والاتصالات السرية مهم جداً، لكن لبنان بعيد عن احتمال الانضمام إلى اتفاقيات أبراهام والتطبيع مع إسرائيل حالياً، على الرغم من أن ذلك قد يكون الحل الأفضل لإنقاذ اقتصاده. في الوقت الراهن، لدى إسرائيل قنوات للتحرك السياسي تساعد في ترسيخ الاتجاه الحالي إلى أن تنضج الظروف للقيام بخطوات أوسع.
قامت الولايات المتحدة بدور مركزي في صوغ الخطة اللبنانية، ومن مصلحة إسرائيل الحفاظ على تنسيق وثيق معها. كذلك، يوجد تقاطُع مصالح مع السعودية وفرنسا في إضعاف حزب الله، ويمكن استغلال هذا التعاون، على الرغم من الخلافات بشأن الملف الفلسطيني. حالياً، لا مجال لمحادثات علنية مباشرة مع القيادة اللبنانية، لكن هناك قنوات لنقل الرسائل سراً، بما فيها عبر الجيش اللبناني، تحت مظلة اليونيفيل.
كذلك يمكن الدفع في اتجاه دمج لبنان في "منتدى غاز شرق المتوسط" (EMGF) ، بدعم من مصر واليونان وقبرص، وبموافقة إسرائيل. فهذا الانضمام سيشكل إشارة إلى إمكان الاستقرار والتعاون الاقتصادي الإقليمي، حتى من دون اكتشافات غازية مؤكدة في المنطقة المتنازَع عليها سابقاً.
👈خلاصة
يمكن لإسرائيل الاستمرار في ضرب حزب الله عسكرياً، وتعزيز خصومه سياسياً واقتصادياً، عبر تنسيق وثيق مع القوى الدولية والإقليمية. وقد تفضي الإدارة الحذرة للقيادة السياسية، مع استثمار الأدوات العسكرية والدبلوماسية والاقتصادية معاً، إلى واقع جديد في لبنان يحدّ من نفوذ حزب الله، ويمنح الحكومة اللبنانية مساحة سيادية أكبر.
------------------
المصدر : معهد القدس للاستراتيجيا والأمن
الكاتب: عيران ليرمان
التاريخ: 23/8/2025