/مقالات/ عرض الخبر

الدبلوماسية العربية:بين المواجهة الحقيقية والهروب من المسؤوليات

2025/06/04 الساعة 03:54 م
اللجنة العربية الإسلامية: تحركات على الهامش
اللجنة العربية الإسلامية: تحركات على الهامش

أسماء بزيع

لقد علمتنا الجغرافيا السياسية الحديثة أن الحياد في زمن الإبادة هو اصطفاف ناعم مع الجلاد، وأن الصمت في لحظة الحق هو ضجيج مدوٍّ للباطل. غير أن بعض العواصم العربية ما زالت تمتهن فن الهروب من الاستحقاقات، مستبدلة المواقف الشجاعة بالمسكنات الدبلوماسية، ومؤجلة المواجهة بحجّة "الحكمة"، حتى باتت هذه الحكمة تُشبه، إلى حد كبير، مراوغات من يخشى الغرق في عمق البحر فيكتفي بالتفرّج من فوق الجرف. ففي زمن تتقاطع فيه الأزمات وتتشابك الخيوط الإقليمية والدولية، تقف الدبلوماسية العربية على مفترق طرق حرج؛ تترنّح بين نداءات المواجهة الحقيقية لمصير شعوبها، وبين إغواءات الهروب من المسؤوليات تحت غطاء البيانات المعلّبة والمواقف الرمادية.

وقد أثبتت الأحداث المتسارعة في العام 2025 – من تصعيد العدوان على غزة، وتهديدات التوسع الاستيطاني، مرورًا بالتحولات المفاجئة في التحالفات الإقليمية، وانتهاءً بعودة شبح الحرب إلى السودان واليمن – أن الصوت العربي، وإن علا في المحافل، لا يزال عاجزًا عن التحوّل من رد الفعل إلى الفعل، ومن التنديد إلى الردع، ومن الإنكار إلى الاعتراف بموقعه الحقيقي على رقعة الشطرنج الدولية. فلم تعد اللغة المنمّقة في المحافل الدولية، ولا البيانات الختامية ذات العبارات الفضفاضة، قادرة على إخفاء عمق الأزمة: أزمة مسؤولية قبل أن تكون أزمة موقف.

والدبلوماسية، في جوهرها، ليست كلمات منمّقة تُلقى على منابر المؤتمرات، ولا صورًا تُلتقط على هامش القمم، بل هي إرادة صلبة، وقرارات جريئة، ومواقف لا تساوم على المبادئ ولا تهرب من صدام الحقيقة. فحين تُركت فلسطين، جرح الأمة المفتوح، نهبًا لآلة القمع والتهجير، كان لزامًا على الدبلوماسية العربية أن تتجاوز حدود "القلق البالغ" و"الدعوات لضبط النفس" إلى حراكٍ فعّال يحاصر العدوان سياسيًا واقتصاديًا، ويكشف زيف ازدواجية المعايير الدولية.

لكن، وبدلًا من ذلك، تنسحب بعض العواصم إلى مناطق الراحة، تُسلّم بسطوة الأمر الواقع، وتغزل خيوط تطبيع باردة لا تعيد حقًا، ولا تردع احتلالًا. هي دبلوماسية تُسقِط شعارات الوحدة، وتتناسى أن الأمن القومي ليس محليًا مجزأً، بل هو كيانٌ مترابط لا ينهض أحد أطرافه إن سقط الآخر.

فمن الخليج إلى المحيط، لا تكاد تمرّ أزمة دون أن تكشف هشاشة التنسيق العربي المشترك، حيث تُدار الملفات الحساسة بروح الفردانية، وتُقدَّم مصالح الأقطار على حساب المصلحة القومية. في حين تتحرّك دولٌ غير عربية، ضمن استراتيجيات عابرة للحدود، تستثمر في الفراغ العربي، وتنسج واقعًا جديدًا بمعزل عن إرادة أصحاب الأرض.

شهدنا في غزة، على مدار شهور، مجازر ممنهجة لم تستثنِ طفلاً ولا شيخاً ولا مشفى، وفي حين خرجت أصوات من أمريكا اللاتينية وإفريقيا تندد وتجرّم وتقطع العلاقات، انشغلت بعض الدول العربية بإعادة ترتيب مفرداتها، كأن الدم الفلسطيني لا يليق بأن يُحرّك أكثر من "القلق البالغ". ألم تكن تلك الدبلوماسية التي هزّت يوماً مضاجع الاستعمار، هي ذاتها اليوم التي تتردّد قبل إصدار بيان إدانة؟ أين ذهبت حرارة البيانات العربية التي كانت تُدوّي في أروقة الأمم المتحدة؟ هل أصبح سقف الطموح هو إصدار تغريدة على منصة رسمية؟

ليس المقصود هنا جلد الذات العربية، ولا التلويح بسيف المزايدات، ولكن الحقيقة – كما النار في الهشيم – لا تنفع معها المجاملة. لقد استحالت القضية الفلسطينية من مركزيةٍ جامعة إلى ورقةٍ تفاوضية لدى بعض الأنظمة، تُستخدم عند اللزوم للابتزاز السياسي أو لكسب شرعية شعبية مهترئة. فهل يليق بمن يحكمون باسم شعوبهم أن يتاجروا بأقدس قضاياها؟

تجربة سوريا لم تكن أهون، فقد اجتمع العالم لإعادة تقاسمها، بينما انشغلت بعض الأطراف العربية بمناقشة من سيجلس على المقعد الشاغر في جامعة الدول العربية، أكثر من اهتمامهم بمصير شعبٍ مزقته الحرب، وتناهبته المشاريع المتضادة. أما لبنان، فلا يزال مشلولاً بين فكَّي الاصطفاف الإقليمي، وكأنّ قدره أن يبقى ورقة بريد تُرسل بين الرياض وواشنطن.

وفي السودان، حيث يُستأنف مشهد الحرب الأهلية بألوان أكثر قسوة، تقف الجامعة العربية بدبلوماسيتها "الحكيمة" شاهدة على تمزّق وطن من دون أن تتجاوز الدور التقليدي كمراقب حيادي. أما ليبيا واليمن، فهما فصلان من ملحمة عربية مديدة، تعاني فيها الدبلوماسية من قصور حاد في الرؤية واستقالة جماعية من المبادرة.

نعم، ليست الدبلوماسية عملًا شعبويًا ولا ميدانًا للخطابات الحماسية، ولكن حين تُغلف الوقائع بعبارات باردة تخلو من الروح، تصبح الدبلوماسية العربية ضربًا من تجميل الهزيمة لا أكثر. المواجهة الحقيقية لا تعني خوض الحروب، بل تعني امتلاك القدرة على اتخاذ مواقف حاسمة في لحظات فارقة، وقول كلمة "لا" حين يتحول الصمت إلى خيانة.

ما أحوجنا اليوم إلى دبلوماسية عربية جديدة: دبلوماسية لا تخشى تسميّة الأشياء بمسميّاتها، ولا تخاف من الاصطفاف الواضح مع الحق، حتى لو كلّفها ذلك خسائر مؤقتة. فالدبلوماسية، إن لم تكن أداة للدفاع عن المظلوم، تحولت إلى غطاء ناعم للظالم.

إنّ الهروب من المسؤوليات لن يؤسس إلا لهشيم دول، ولن يخلّف سوى شعوب تتآكل ثقتها بممثليها، وأوطانٍ مهددة بالذوبان في مشاريع الآخرين. وبينما يعيد العالم رسم ملامحه بقوّة السلاح أو صلابة الموقف، ما تزال بعض الأنظمة العربية تتقن لعبة الانتظار: تنتظر أن تُرسم الخريطة، لتقرر بعد ذلك بأي لون تكتب اسمها الهامشي على هامشها.

ومع ذلك، لا يزال في المشهد العربي بارقة أمل. هناك من يدرك أن المعركة اليوم لم تعد فقط سياسية أو عسكرية، بل حضارية بامتياز. أن الاستقلال في القرار العربي لا يأتي بالتبعية للأقطاب، بل بالتكامل العربي الحقيقي، الذي يبدأ من مراجعة شجاعة للمواقف، وإعادة تعريف التحالفات، وبناء أدوات ضغط جديدة، تقوم على الاقتصاد المشترك، والإعلام المؤثر، والدبلوماسية الشعبية، لا فقط الدبلوماسية الرسمية.

إن الدبلوماسية العربية، إن أرادت أن تخلع عنها ثوب الهروب وتلبس درع المواجهة، عليها أن تستنهض ذاكرتها التاريخية، أن تتذكّر أنها كانت يومًا تقود لا تُقاد، وتبادر لا تُستدرج، وتطرح الرؤى لا تكتفي بالرد عليها. فالشعوب سئمت الأعذار، والواقع لن يرحم المتقاعسين. كما إن الخيار بات واضحًا: إما أن تنتصر الدبلوماسية العربية لكرامة أوطانها وشعوبها، أو أن تُدفن في رمال البيانات المتكررة… حيث لا صوت يسمع، ولا أثر يُذكر.

رابط مختصرhttps://alqudsnews.net/p/216413

اقرأ أيضا