/دراسات/ عرض الخبر

بمناسبة يوم الأسير الفلسطيني...

صرخة الأسرى الى العالم الحرّ .. من "جحيم" و"جهنم" معسكرات الإحتلال "الإسرائيلي" المستحدثة!..

2025/05/01 الساعة 06:03 م

ندى أحمد*

مقابلة مع المحامي الفلسطيني خالد محاجنة، محامي هيئة شؤون الأسرى منذ العام 2015، المختص بملفات الأسرى لا سيما معتقلي الداخل المحتل.

بعد أشهر من تقديم طلب زيارة موكله في معتقل "سديه تيمان" العسكري "الإسرائيلي" السرّي الأكثر رعباً على وجه الأرض، جاءت الموافقة لأول محامٍ فلسطيني وهو خالد محاجنة لزيارة الصحفي الغزاوي المعتقل محمد عرب المعزول كلياً عن العالم الخارجي لمدة 100 يوماً.

يقبع عشرات آلاف الأسرى الفلسطينيين من قطاع غزة، الضفة الغربية، الداخل الفلسطيني المحتل، والقدس، في معتقلات عسكرية تمتد على وسع الأراضي الفلسطينية المحتلة. يكاد يكون أصعبهم بحسب المحامي محاجنة هم الآلاف من أسرى الإعتقال الإداري لأسباب وتهم عدة أبسطها التعبيرعن الرأي. وعلى الرغم من محاولات عدة لنقل شهادات الأسرى عبر الإعلام وإيصالها للعالم المتحضر، لم تستطع أي جهة أن توقف جرائم العدو "الإسرائيلي" وأفعاله الشنيعة بحق الأسرى الفلسطينيين ذكوراً وإناثاً، أطفالا، شباباً وحتى كهولا.

يتواجد الأسرى في براكسات بدون غرف أو أقسام، مجرد سقف يجمعهم ولكل أسير دائرة يتم تحديدها وهي تعتبر مكان إقامته، يمنع عليه تجاوزها، يرتدي الملابس ذاتها من 18 شهراً، ويكون جميع الأسرى بكافة فئاتهم شهوداً على حلقات التنكيل والإغتصاب والسباب وحرق المصاحف وبتر الأطراف بدون تخدير نتيجة التعذيب والتقييد لأشهر متتالية حتى تآكل اللحم وخروج العظام من مكانها. ويبلغ الأمر منتهاه بحيث يمنع الاسير من الصراخ أو البكاء أو التعبير عن الألم وإلا ينال عقوبة، ويتم تراكم العقوبات الصغيرة كهذه لتصل به الى العقوبة الأكبر وهي "الإغتصاب". أما بالنسبة للأسرى المشاهدين، فيمنع عليهم التعبير أيضاً وإلا ينالهم ما نال الأسير قيد التعذيب. يحصل ذلك كله في الساحة نفسها أمام مرأى الجميع، في ابتكار صهيوني لوسائل عجيبة من التنكيل والتعذيب النفسي والجسدي تتخطى حدود العقل البشري على إستيعابها.

يضيف محاجنة: "أنا أعيش بالداخل وأعرف كم أن "إسرائيل" دولة عنصرية ومجرمة  ومحتلة، ولكن لم أتخيل في يوم من الأيام أن أستمع لشهادة أسير بأن مجندة أنثى لا تتعدى العشرين عاماً تقوم بإغتصاب أسير مسن أو حتى شاب، وقد تمت تعريته بالكامل وهو مقيّد اليدين والقدمين ومعصوب العينين، بأدوات ووسائل خارجية وتفاصيل تحدث منذ ما يزيد عن العام وتوثيق الإغتصاب والسخرية منه، أخجل من نفسي كإنسان أن أرويها أو أستذكرها بيني وبين نفسي."  تختلف الأدوات التي تستخدم خلال عملية الإغتصاب من هراوات ومسدسات، الى مطافي الحرائق التي يتم ضخ ما فيها من مواد في مؤخرة الأسير مما يسبب معاناة صحية ونفسية للأسير على حدٍ سواء.

منعت حكومة الإحتلال منذ 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023 وبشكل نهائي زيارة الصليب الأحمر والمؤسسات الدولية لأي معتقل فلسطيني من غزة أو الضفة الغربية، وقاموا بالإستفراد بالأسرى بعيداً عن أعين العالم أجمع. حاولنا كمحامين زيارة الأسرى وقوبلت طلباتنا بالرفض في كل مرة الى حد الدخول في حرب مع جيش الإحتلال لزيارة معسكر "سديه تيمان". وقدمت إحدى المؤسسات الحقوقية إلتماس الى المحكمة العليا وهي أعلى هيئة في القضاء "الإسرائيلي"، الى أن حكمت المحكمة بعد ما يقارب 6 أو 7 أشهر من بدء العدوان بزيارة الأسرى المدنيين من قطاع غزة المتواجدين في معسكرات الجيش، إذ أن أسرى غزة تم تقسيمهم الى:

* أسرى النخبة أو العسكريين الذين تم إعتقالهم يوم 7  أكتوبر وما بعده، وتقدر أعدادهم بين 350 الى 400 معتقل. تم إخفاءهم في أحد السجون "الإسرائيلية" الذي يسمى "راكيفيت" أو "الصندوق" وهو موجود تحت الأرض في مكان سري ما بين اللد والرملة. قام إيتمار بن غفير منذ أشهر بتوثيق نفسه خلال إقتحامه هذا المعتقل، وتصوير الاسرى الغزيين مجهولي المصير بدون أي محاكمات أو تهم أو دلائل.

* أسرى مدنيين ممن تم إعتقالهم بعد الإجتياح البري لقطاع غزة وهم أيضاً بدون أي محاكمات، الأمر الذي ينطبق على كافة الأسرى في المعتقلات الأخرى.

تم الإفراج عن كافة الأطفال الأسرى من قطاع غزة عبر صفقة التبادل الأخيرة. أما النساء فلا معلومات لدينا عن أعدادهن أو ظروف اعتقالهن، وبالطبع فإن زيارة الاسيرات ممنوعة أيضاً.

بالعودة الى زيارة معتقل "سديه تيمان"، وبعد سماح المحكمة العليا للحقوقيين بزيارة معسكرات الجيش، تقدمت بمراسلات عدة لزيارة موكلي محمد عرب، فجاء الرد بعد مماطلة لشهرين عبر البريد الإلكتروني بأن موكلي موجود في معتقل "سديه تيمان" وبإمكاني زيارته، وللعلم فإن أهل محمد وأنا لم نكن ندري إذا ما كان على قيد الحياة أو قد تم قتله. تمَّ التنسيق على الزيارة بيوم 19\6\2024 لأكون أول محامٍ يدخل هذا المعتقل على الإطلاق.

جاء اليوم المنشود، فتوجهت بسيارتي عبر إرشادات تطبيق "جي بي إس" الى جنوب البلاد، حيث يقبع معتقل "سديه تيمان" بعيداً لمدة أربع ساعات عن مكان سكني في الداخل. هو معسكر حديث كبير "ما بتعرف أولو من آخرو". طلبت مني مسؤولة التنسيق أن أركن سيارتي خارجاً وأتوجه الى المدخل حيث نقلتني سيارة عسكرية الى داخل المعسكر.

كانت هذه الزيارة بالنسبة لمحاجنة شخصياً مغايرة لأية زيارة قام بها لمعتقلات سابقة كعوفر أو مجدو أو شطة أو الدامون أو نفحة. فالمكان مختلف، والجنود بمظهرهم وتصرفاتهم ومعاملتهم معه كمحامي مختلفين أيضاً. كان الجنود مقنعين ومسلحين الى يمينه ويساره في السيارة العسكرية، أخذوا منه هاتفه، وتم توجيه تعليمات بعدم النظر الى جانبيه، لمدة ربع ساعة تملكه فيها الخوف والتساؤل "لوين ماخديني؟!". يقول محاجنة: وصلنا الى مكان مغلق لا تعرف فيه للباب شكلاً، استقبلني جنود مقنعين ما عدا واحدهم عرّف بنفسه كمرافق في هذه الزيارة وأخذ بياناتي الشخصية، وأعلمني بأن موكلي في طريقه للقائي وسيصل بعد عشرة دقائق وأن مدة الزيارة أربعين دقيقة.

في هذه الأثناء تم توجيه تعليمات لي بأسلوب تهديدي بأن لا أتطرق لمواضيع معينة، وبأن أي تصرف مني أو من الأسير يمسّ بأمن دولة "إسرائيل" أو أمن المعسكر، سيترتب عليه تلقائياً إلغاء الزيارة وإخراجي من المعسكر ومحاسبتي. وعند التساؤل عن نوع التصرف الممنوع كي أتجنبه، أجابني بالعبرية طبعاً "إشتغل بما تراه مناسب وفق حكمتك". وهنا كانت لحظات صراع مع النفس، وتساؤلات عصفت بي: إيش بدي أحكي مع الأسير؟ كيف بدي أتصرف معاه؟ مين هو الأسير اللي بدي أشوفه؟ أنا بس بعرف إسمو، ما بعرفه!!

وصل محمد عرب، بحالة صعبة الوصف، مسحوب من رقبته، مقيّد اليدين الى حدّ تآكل اللحم وبروز العظام مع سوار عليه رقمه المتداول داخل المعتقل، معصوب العينين، يرتدي ملابس شديدة الوساخة لم يبدلها منذ 100 يوم، وكان الجنود المقنعين يقفون خلفه داخل الغرفة وخلال مدة الزيارة بأكملها. أضاف محاجنة: لم يصدق محمد هويتي حتى بعد أن عرّفته بنفسي وبأنني موكل من عائلته، الى أن أوصلت رسائل أهله الشفهية وقمت بوصف أطفاله بحسب ما رايتهم في الصور سابقاً، فقرر محمد بعدما أخذته العاطفة وبكى، التعامل معي "وكأنني المحامي محمد محاجنة" بحسب ما قاله، فالشكّ تملك كيانه بأنني ربما جاسوس لا سيما وأنه معتقل منذ آذار 2024 بدون التعامل مع أي شخص من خارج جحيم المعتقل، وبعدما أقنع الجنود الأسرى ضمن حربهم النفسية بأنهم مجهولي المصير ولا أحد يسأل عنهم وسيموتون في هذا المعتقل.

طلب محمد أن أوصل معاناة الأسرى الى العالم الخارجي، وأكّد أن كل ما يصفه ويقوله من آلام وأحداث داخل "سديه تيمان" لا يتعدّى عشرة بالمئة من حجم الوحشية والظلم في حال مناظرتي الشخصية للأمر.

تم إعتقال محمد من مستشفى الشفاء مع المئات من المرضى والطواقم الطبية، ثم تم تجريدهم من ملابسهم بالكامل ونقلهم بشاحنات كبيرة الى معتقل "سديه تيمان" حيث أعطوهم ثياب وسخة ما زال الأحياء منهم يرتدونها حتى يومنا. وقد تفاجأ محمد عندما أخبرته أنه يتواجد قرب منطقة رهط العربية إذ كان يظن أنه في غلاف غزة.

أخبرني محمد بأن القيود ترافق الأسرى ولا يتم نزعها على الإطلاق، فهم يأكلون ويقضون الحاجة ويستحمون وهم مقيدين. وبعد سؤاله عن سبب هزال جسده، قال محمد بأن الأكل هو صنف واحد "لحسة لبنة، خبزة 100 جرام، خيارة أو حبة بندورة، وتفاحة مرة كل ثلاثة أسابيع" على مدار الثلاث شهور في الوجبات الثلاث اليومية. وهذا ينطبق على باقي الأسرى المتواجدين في المعتقل منذ 18 شهراً، ما يسبب الإمساك أوالإكتام للأسرى ومنهم محمد الذي لم يستخدم المرحاض فعلياً لأشهر من الزمن، فليس هنالك ما يدخل المعدة لقضاء حاجته.

يسمح للأسير بإستخدام المرحاض مرة واحدة يومياً، أما الأستحمام فهو حصراً بنهاية الأسبوع ولدقيقة واحدة فقط؛ يتعرض الأسير الى العقوبة (تختلف العقوبات بين الوقوف على ساق واحدة على سور المعتقل من ثماني الى عشر ساعات، الإهانات والسباب مرفقاً بالضرب بشكل فظيع، الى حد الإغتصاب في هذا المسلخ) إذا ما تخطى هذه الدقيقة، الأمر الذي يدفع بالأسرى كمحمد الى تفضيل عدم الإستحمام، لتفادي تخطي الوقت وبالتالي تفادي العقوبة.

يعاني أغلب الأسرى من إنتشار الأمراض الجلدية المعدية لا سيما الجرب بسبب الإكتظاظ البشري داخل المعتقل، قلة النظافة الشخصية حد إنعدام وسائلها، عدم التعرض لأشعة الشمس، وعدم تقديم الإحتلال العلاج الطبي كوسيلة عقاب وتنكيل للحالات هذه مما أودى بحياة العديد من الأسرى.

يتوزع أسرى قطاع غزة بالاضافة الى أسرى لبنان وسوريا على عدة معسكرات هي معسكر عوفر ومعسكر نفتالي الحديثي الإنشاء في شمال البلاد، بالاضافة طبعاً الى معسكر سديه تيمان.

بالنسبة للأسرى السوريين، يتواجد في المعتقلات "الإسرائيلية" العشرات منهم؛ العديد تم إعتقالهم إثر سقوط النظام السوري. أذكر هنا حالة لطفل عمره 14 سنة تم إعتقاله خلال إحدى توغلات جيش الإحتلال في القنيطرة السورية في شهر أيار 2024. وقد تلقيت إتصالاً من والد الطفل بعد مرور أربعة أشهر على إعتقاله بحجة أنه "مقاتل غير شرعي" كتصنيفهم للأسرى الغزيين من أطباء وصحافيين وممرضين ومدرسين أي مدنيين رجالاً ونساءاً بشكل عام. وهو توصيف مبتكر من الإحتلال من خلال قانون تم سنّه في العام 2002 لتبرير إحتجاز أي مدني لا سيما من لبنان آنذاك. فعلى الرغم من إتفاقية وقف إطلاق النار مع لبنان، لا زال العديد من الاسرى اللبنانيين يتواجدون في معسكر عوفر بدون تهم أو محاكمات.

بعد مرور شهر وفي زيارتي الثانية والأخيرة لمحمد عرب في معتقل عوفر حيث تم نقله، كنت أتوقع أن أراه بحالٍ ربما "أقل سوءاً" من حاله الأخير في سديه تيمان، إلا أن وسائل التعذيب في هذا المعتقل تخطت السابق.

ينقسم المعتقل الى "سجن عوفر" ويتبع لمصلحة السجون يحتجز فيه آلاف الأسرى من الضفة الغربية، و"معسكر عوفر" التابع لجيش الإحتلال والخاص بأسرى غزة حصراً. فالغرف من باطون، والمراحيض تحت المراقبة الدائمة، ويجمعون حوالي 14 أسيرا في كل زنزانة لا تتعدى مساحتها الأربعة أمتار بخمسة حيث ينام معظم الأسرى وقوفاً، مع عدم تواجد أي أسرة أو حتى أغطية.

في معسكر عوفر لم يشاهد محمد حلقات التعذيب، لكنه كان يسمع صرخات وآهات الأسرى خلالها. أخبرني محمد عن "عنبر جهنم" و"عنبر جحيم" المستحدثين حيث تتم عمليات التعذيب والتنكيل. في عنبر جهنم، يقوم الجنود بإدخال الكلاب لإغتصاب الأسرى معصوبي الأعين ومقيدي الأطراف وهم ملقون على بطونهم أرضاً، فتدوس الكلاب على ظهورهم ويحدث الإجرام غير البشري. الأمر الذي جعلني أفكر بأن هنالك أفراد في هذه المؤسسة الأمنية متخصصين بابتكار وسائل التعذيب والتنكيل بحق أسرى مدنيين عزل مسلوبي الحقوق القانونية والبشرية، يتم تحميلهم مسؤولية كل ما يحدث في غزة وتدفيعهم الثمن.

بعد عشرات المراسلات والكتابات مع الجيش "الإسرائيلي"، إستطعت أيضاً مقابلة الأسير القاصر إسماعيل الصيفي (16 عاماً) في قسم الأشبال في سجن مجدو بعد أن تم نقله من معتقل سديه تيمان، وهو كان مجهول المصير لمدة عام كامل، ولاحقاً تم الإفراج عنه في إحدى صفقات التبادل الاخيرة. كان إسماعيل، الصغير حجماً وعمراً يبلغ 15 سنة عندما إعتقل من غزة، وقد إستشهد أخاه خلال إعتقاله ولم أتمكن من إخباره، فقد تملكته السعادة عندما شاهدني لأول مرة، وكان منفعلاً وسعيداً رغم القيود. أخبرني بفطرته  الطفولية عن تفصيلة واحدة يعتبرها جميلة داخل السجن: "نحنا يا آستاذ كل يوم بناكل نفس الوجبة، إلا يوم الخميس بيجيبولنا فلافل". إسماعيل لم يبدل ملابسه منذ سنة، وفقد الكثير من وزنه، إلا أن معنوياته كانت مرتفعة، حتى بتعامله مع السجان كان ذكي ولمّاح.

من الجدير ذكره أن الأشبال يتعرضون لأساليب التعذيب نفسها كسائر الأسرى البالغين لا سيما الضرب والشبح، النوم بدون أغطية صيفاً وشتاءاً، شرب الماء من حنفية المرحاض، الحرمان من كل أنواع السوائل، وغيرها من الأساليب القهرية.

لا أعلم حتى الآن لماذا تم منعي من مقابلة موكلي محمد عرب، إلا أنني أتوقع أنه بسبب الشهادات التي تم نقلها عن لسان محمد الى العالم الخارجي، ورغم ذلك فقد تقدمت بطلبات مجدداً لعلها تقابل بالموافقة في مرة أخرى. 

   أما الأسيرات من غزة فهن منعزلات عن باقي الأسيرات في سجن الدامون داخل أقسام خاصة. ومن الشهادات التي نسمعها، فإن حال الأسيرات الغزيات أصعب من سواهن، بحيث يصل الظلم والتعذيب الى حدّ مساومة الأسيرة بشكل حقير ولا إنساني على التفاصيل الحياتية داخل المعتقل مثل الحجاب، الجلباب، الملابس والأمور الأكثر خصوصية وإحتياجاً التي يعود تزويد الأسيرة به أو عدمه لمزاج السجان.

قامت دولة الإحتلال بإخفاء كل المعطيات عن أسرى غزة عمداً، فلا معلومات عن الأعداد والإعدامات والأحياء والشهداء ومن قضى تحت التعذيب وإذا ما تم دفن الشهداء أو وضعهم في برادات، ليس لدينا اي معلومة نهائيأً، إلا أن العدد يقدر بحوالي 3000 الى 3500 أسير وأسيرة. حتى أن الإحتلال يرفض رفضاً قاطعاً الرد على أي طلب أو إلتماس من عائلة أي أسير لمعرفة مصيره. حدثني محمد عن عشرات الشهداء الذين سقطوا في حلقات التعذيب في سديه تيمان، ومنهم من شوهد يسحب من قبل الجنود الى جهات مجهولة. وأنا أعتقد وفق شهادة محمد بأنه يوجد مقابر جماعية في هذا المعسكر.

خلال كل إقتحام لمستشفى في غزة قام جيش الإحتلال بإعتقال الأعداد الهائلة من الكوادر الطبية مجهولي المصير، أما الدكتور الوحيد الذي أعرف عنه هو الدكتور حسام أبو صفية من خلال المتابعة الإعلامية، وأخاف على مصيره إذ برأيي أنه لا رادع لدولة "إسرائيل" عن إغتياله أو إعدامه بأي لحظة، كحال الدكتورين الرنتيسي والبرش وخلق أي عذر لفعلتها. هنالك شهداء يسقطون بشكل يومي في الحركة الأسيرة سواء من الضفة الغربية أو قطاع غزة، آخرهم طفل من سلواد يبلغ 17 عاماً إستشهد بسبب الجوع والمرض.

 ناضل الأسرى بأمعائهم الخاوية وإضراباتهم وسقط منهم الشهداء لسنوات طوال من أجل الحصول على إمتيازات وحقوق داخل سجون الإحتلال، كإقتناء التلفاز أو الثياب أو حتى شوك الطعام؛ وكافحوا العزل الإنفرادي والإهمال الطبي، وتمكن الأسرى حتى أصغرهم سناً من إرهاب أكبر وأعتى السجانين، وكان هنالك تنظيمات وحركة أسيرة وحلقات تثقيف وتوعية... الى أن حدث أمرين، الأول هو حدث هروب الأسرى الستة من نفق الحرية الذي هزّ الكيان ومنظومته الأمنية؛ وعلى أثره قامت "إسرائيل" باتباع سياسة ونهج جديد مع الأسرى عامةً. أما الحدث الثاني فهو وصول إيتمار بن غفير الى منصبه في وزارة الأمن الداخلي المسؤولة بشكل مباشر عن مصلحة السجون وشؤون الأسرى.

كان بن غفير يدعو الى إعدام الأسرى والإنتقام منهم والقضاء عليهم بإطلاق النار على رؤوسهم، وبدأ بتحقيق أحلامه السادية بعد وصوله الى هذا المنصب الوزاري. لم يتوقع أحد على الإطلاق الإجراءات التي قام بها بن غفير على سبيل المثال لا الحصر إغلاق المخابز، الحرمان من علاج الأسنان وهو عادةً على نفقة الأسير الخاصة، منع العلاج والأدوات الطبية بشكل عام، منع أصناف عدة من المأكولات ومواد الطبخ من دخول الكانتين (الدكانة) لا سيما الملح والسكر، وغيرها الكثير من القرارات التعسفية الصعبة.

 وقد إستغل بن غفير الحرب على غزة وإنشغال العالم بأخبارها، وأخذ الضوء الأخضر من حكومته، وبدأ بحربه الإنتقامية من الأسرى بدءاً بسحب كل إنجازاتهم على مدى الأعوام الطوال، عزل الاسرى عن العالم الخارجي بشكل تام، منع زيارات المحامين وهي حق أساس للأسير، منع زيارة الأهالي لأبنائهم في السجون، إجراءات أخرى كإنتزاع ملابس الأسرى والإستحواذ على مقتنياتهم وغياراتهم حتى الداخلية منها، والنظارات وأجهزة السمع الطبية، كما وسحب المخدات والفرشات والأغطية ولم يبق إلا أرضية السجن. كما ادخل الوحدات الخاصة لضرب الأسرى وقمعهم داخل الزنازين، ووضع قائمة طعام قام بإختيارها بنفسه هدفها إبقاء الأسير على قيد الحياة لا أكثر.

تمادى وتماهى بن غفير بإجراءاته التعسفية مع إستمرار الحرب حدّ الوصول الى إعدام الأسرى تعذيباً من قبل الوحدات الخاصة، وسقط الشهيد الاول عبد الرحمن مرعي من الضفة الغربية في سجن مجدو بعد الإعتداء عليه بالضرب المبرح داخل زنزانته وتركه لآلامه وصراخه من يوم الخميس حتى الأحد حين إختفى صوته وتبيّن للأسرى لاحقاً بأن عبد الرحمن قد إستشهد.

أحد الأسرى في معتقل النقب قام بسؤال السجان ما اذا كان هنالك صفقة تبادل قريبة، ليقوم السجانين بضربه وتعذيبه حتى لفظ أنفاسه وإستشهد. أما الشيخ عمر ضراغمة فقد إستشهد في معتقل مجدو بسبب الإهمال الطبي المتعمد علاجاً ودواءاً. أعداد هائلة من الأسرى الشهداء سقطوا في المعتقلات خلال أشهر قليلة، وأكثر ما يؤلم هنا هو صمت وسكوت العالم في ظل غياب القوانين والحماية للأسرى في دائرة الإستهداف اليومي المباشر.

لقد أصبحت أمنيتي الخاصة أن ألتقي بأسير لا يشتكي، وهو أمر مستحيل فلا يوجد أسير لم يعاني، بالذات من قضى منهم فترات طويلة سابقة في المعتقلات وقاموا بإنجازات للحصول على حقوقهم، حيث يصفون فترة أشهر الأسر ما بعد 7 أكتوبر بأنها تعادل كل فترة الأسر التي مرّت من أعمارهم.

أحد الأسرى من الداخل المحتل في معتقل المسكوبية، المتهم بالتعامل مع تنظيمات والتحريض عبر تطبيق الفايسبوك، يبلغ من العمر 25 عاماً وهو مريض سرطان. تم إعتقاله منذ ما يقارب الشهرين من داخل المسجد الأقصى. وقد تفاقم وساء وضعه الصحي بسبب عدم تلقي أي علاج خلال مدة الإعتقال. خلال محاكمته، شرح الأسير للقاضي ضرورة حصوله على الماء النظيفة بسبب وضعه الصحي، وقد قام السجان بإدخاله الى دورة المياه وأجبره على شرب مياه المرحاض الآسنة. فكيف لمحكمة عنصرية لاحيادية أن تنصف أسيراً في الوقت الذي باتت فيه المحاكم تتنافس على الإنتقام والقمع وكأنهم في سباق؟!.

أما نظمي أبو بدر الأسير الخمسيني من قرية يعبد، فهو متهم بقتل جندي "إسرائيلي"، وقضيته مازالت قيد التداول في المحكمة العسكرية. أرافق هذا الأسير منذ خمسة أعوام، وأعرفه بشكل جيد. وفي يوم الإستماع، جاء نظمي بجسد هزيل وقد خسر ما يقارب 25 كيلوجراماً من وزنه، لحيته طويلة وشعره طويل، يمسك بنطاله بيده كي لا يقع منه. وعند سؤالي له "عم نظمي شو صار فيك؟"، بكى العم نظمي أمام القضاة، وأخبرني بأنه يتعرض للضرب منذ ثلاثة أيام وهي مدة نقله من سجن نفحة الى مجدو، يعاني من الجوع وقلة النوم والموت اليومي، ولم يغير ثيابه منذ سبعة أشهر، وللعلم فهو قضى هذه الأشهر دون أية ملابس داخلية، وطلب مني أن يرى شكله في المرآة وهو أمر غير ممكن في المحكمة.

وتحوّل الأمر في المحكمة من دفاع عن القضية الى دفاع عن حالة الأسير ووضعه في المعتقل بعد إستنكار القضاة وتشكيكهم بصحة كلام العم نظمي، فاقترحت على القضاة "إيش رأيكم يفرجيكم عشان تصدقوا؟" ولم يحرك لهم ساكناً. هذا وقد حضر الأسير الى المحكمة بدون تناول أي طعام، فطلبت من المحكمة إذناً بإحضار ما يأكله ويشربه وهو أقل حقوقه مثلنا جميعاً بالإشارة الى هيئة المحكمة، فأحضروا له طعاماً مع إستراحة لمدة ربع ساعة، عاد من بعدها بشعور إيجابي ومبتسم وأخبرني بأنه لم يأكل هكذا طعام ولم يذق طعم السكر منذ 7 أكتوبر. بالمحصلة، تعرض نظمي أبو بدر للتنكيل والعقوبة بسبب شهادته في المحكمة.

من خلال عملي أكتشف يومياً أسلوب تعامل جديد من المنظومة "الإسرائيلية" لا سيما المخابرات خلال حملات الإعتقال. فأحد الشباب من الداخل الفلسطيني وهو مهندس وموظف، يتملكه الألم لما تعانيه غزة شأنه شأن سائر الشباب في الداخل؛ حلم هذا الشاب بأنه قام بعملية إطلاق نار على محطة الشرطة في أم الفحم، ومن خلال حديثه مع تطبيق الذكاء الإصطناعي "شات جي بي تي" وسؤاله "كيف أصنع مخرطة من محرك الغسالة؟"، وبشكل مفاجىء، تقتحم المخابرات بيته ويتم إعتقاله من غرفته مباشرة.

منع من مقابلة محامي وأخذ إستشارة لمدة عشرة أيام، وتم الإستفراد به في التحقيق الى أن وصل الى مرحلة أقنعوه بها بضرورة الإعتراف بأنه سيحقق الحلم على أرض الواقع مما دفعه للتواصل مع الذكاء الإصطناعي كي يتعلم كيفية صناعة عبوة من خلال المخرطة لتنفيذ العملية. إعترف الشاب على نفسه، ولكن بسبب ضعف الأدلة لم يتوجه له أي إتهام وكان من البديهي الإفراج عنه، لنتفاجأ بإصدار وزير الحرب يسرائيل كاتس أمر إعتقال إداري لستة شهور معتمداً بطبيعة الحال على "أدلة سرية" من أجل تحييد المتهم من خطورة مستقبلية. إكتشفنا لاحقاً بأن إمكانية الحلم لأن يتحول الى واقع كان أساساً لقرار المحكمة. فسألت القاضي إذا حلمت بأنني ملياردير وأملك 2 مليون دولار، فهل ستأتيني المؤسسات المالية لتطالبني بدفع ضريبة؟ لم تعجب المقاربة القاضي ووجد الأمرين غير متشابهين على حد قوله.

ما يزيد عن 4000 أسير من الضفة الغربية، القدس والداخل معتقلين بدون تهم أو محاكمات بموجب إعتقال إداري وبأمر من المخابرات. يصدر أمر الإعتقال الإداري لمدة ستة شهور قابلة للتجديد بناءاً على مواد سرية يمنع المحامي من معاينتها بخلاف القضايا الأخرى. فاليوم، إن الشبهة العامة، المسّ بأمن المنطقة، التخطيط أو التفكير أو حتى الحلم أو إحتمالية تشكيل خطر مستقبلي قد يعرض الفلسطيني للإعتقال.

يبقى المعتقل الإداري مجهول المصير بخلاف الأسير المحكوم الذي يعرف تاريخ حريته. من أصعب الحالات التي تحصل اليوم هو إعادة الأسير الإداري الى زنزانته بعد وصوله الى بوابة السجن مع إنتهاء مدة الحكم الإداري؛ إذ يتفاجأ بتجديدها في اللحظات الأخيرة لتمتد فترة الأسر الى سنتين غالباً، وللعلم فإن نسبة الإفراجات في هذه الحالات لا تتعدى 5% اليوم.

بالمحصلة فإن كل إنسان هو عرضة للإعتقال الإداري لأي سبب كان ما يضيف الى معاناتنا وعجزنا كمحامين في الدفاع عن موكلينا بالشكل الصحيح. تؤازر المحكمة العليا ومحاكم الإستئناف قرارات الجيش وتؤكد وتشدد عليها بشكل عنصري متذرعين بحالة الحرب. وللعلم فإن الإعتقال الإداري موجود منذ الإنتداب البريطاني في العام 1945 وقبل تأسيس كيان الإحتلال، ومازالت الأجيال الفلسطينية تعاني منه.

إن موضوع الأسرى هو أمر مقدس وهي حرب إرادة على المجتمع الفلسطيني بكل فئاته، فصائله، جمعياته ومؤسساته التكاتف والوقوف الى جانب الأسرى في قضيتهم. يوجد أكثر من 70 محامي يقومون بتمثيل الأسرى وزيارتهم في كل سجون الإحتلال. ومازالت رواتب الأسرى قائمة، ولا أظن أن أحداً يمكنه المساس بهذا الأمر. تحاول هيئة الاسرى تلبية الحاجة، إلا أن أعداد الاسرى هائلة، والاعتقالات مستمرة، والقيود على المحامين تتزايد الى حد تعريض المحامي الى المساءلة بناءاً على مرافعته.

أما الصليب الأحمر وإزدواجيته بالتعامل والمعايير واضحة للجميع، ولم نشهد منه أي ضغط للوقوف عند معاناة الأسرى وظروف إعتقالهم والتمكن من زيارتهم. وقد شهدنا من خلال عمليات التبادل التي حصلت في غزة الفرق الفادح في التعامل الإنساني والنقل بين الأسرى الفلسطينيين وجثث الشهداء منهم وبين الأسرى الإسرائيليين وجثثهم، وبذلك فإن الصليب الأحمر والمنظمات الحقوقية لا تقوم بدورها تجاه الأسرى الفلسطينيين نهائياً. وللعلم فإن عملنا كمحامين في ظل التضييقات والصعوبات يحتاج الى جهود كافة المنظمات الحقوقية لكي يكتمل.      

 وفي ختام المقابلة، فإن رسالة الأسرى من داخل ما أسموه "القبور" التي يتواجدون فيها هي وقف الحرب عليهم والمجازر والإعدامات بحقهم متمنين الخروج منها يوماً. فهل من أحد في هذا العالم بإمكانه إنقاذ هذه الفئة من البشر وإخراجهم من هذه القبور؟ فيا أيها العالم يكفي إعطاء "إسرائيل" الفرص لتتمادى أكثر، فالإنسان الأسير الفلسطيني من حقه العيش بحرية. وأتمنى أن يأتي يوم ويتم تبييض هذه السجون بالكامل.

----------------

*كاتبة فلسطينية

مقيمة في الولايات المتحدة الأميركية

30 نيسان 2025

معتقلون الى السجن
الاسرى -- داخل الملف
 

 

رابط مختصرhttps://alqudsnews.net/p/215233

اقرأ أيضا