أسماء بزيع*
يحاول البعض في عالمٍ تحكمه المصالح، التعامل مع الأوطان وكأنها أوراق قابلة للمساومة، تُعرض في المزادات السياسية لمن يدفع أكثر، وتُرسم خرائطه وفق توازنات القوة، لتصبح المدن عنوانًا للمفاوضات العابرة بين الدول. وهنا يتجلى الانحراف عن جوهر الإنسانية والحقوق الثابتة! فهل يمكن اختزال المدن في أرقامٍ ومشاريع؟ وهل يمكن تصفية القضايا العادلة بصفقاتٍ مشبوهةٍ واتفاقاتٍ تُبرم خلف الأبواب المغلقة؟
اليوم، تتزايد المحاولات لإخراج غزة من معادلة القضية الفلسطينية، عبر مشاريعَ تبدو إنسانيةً في ظاهرها، لكنها تحمل في جوهرها مخططاتٍ مشبوهة لعزلها عن محيطها، وتحويلها إلى كيانٍ منفصلٍ تحت مسمى "حلولٍ اقتصادية". فالموانئ والمطارات المقترحة، والاستثمارات الموعودة، ليست سوى ستارٍ يُخفي وراءه رغبةً في تفكيك القضية الفلسطينية، واستبدال الحقوق المشروعة بمكاسب آنيةٍ لا تدوم.
التاريخ يشهد... غزة ليست للبيع
منذ فجر التاريخ، لم تكن غزة محطةً عابرةً في حسابات المستعمرين، بل كانت عقدةً عصيةً على كل من حاول إخضاعها. من الفراعنة إلى الإغريق، ومن الرومان إلى الاحتلال الصهيوني، لقد بقيت غزة عنوانًا للصمود، لم تفرّط في أرضها، ولم ترضخ للغزاة. واليوم، بعد عقودٍ من الاحتلال والحصار والمجازر، يأتي من يحاول أن يعرضها في مزادِ الحلول السياسية.
لكنّ غزة، الأرض التي تنبض بالمقاومة والصمود والثبات، لم تكن يومًا عقارًا للإيجار أو الاستثمار، ولم تكن ورقة مساومة تُطرح في موائد المساومين، بل لطالما أثبتت هويتها المتجذرة في التاريخ، بشعبها الذي ارتوى بدمائه ليحفظ أرضه وكرامته. بل وليست مجرد ملفٍ تفاوضي، وليست ورقةً يمكن التلويح بها لتحقيق مكاسب سياسية، ولا جزءًا من "حلولٍ مرحلية"، يمكن اختزالها في مشاريع إعمارٍ أو تحسين ظروفٍ معيشيةٍ على حساب حقوقها الوطنية.
غزة، بكل ما تحمله من رمزيةٍ في القضية الفلسطينية، ليست مجرد شريطٍ ساحلي يُقدَّر بمساحته الجغرافية، وليست مجرد بوابةٍ تطل على البحر المتوسط، بل هي وطنٌ ينبض بالحياة رغم القيود، وأرضٌ ضاربةٌ جذورها في عمق التاريخ العربي والإسلامي. فكيف يجرؤ أحد على اعتبارها مشروعًا استثماريًا أو صفقةً تُطرح على الطاولات المظلمة؟
من الحصار إلى المشاريع المشبوهة… محاولات التصفية مستمرة
لم تكن معاناة غزة وليدة اليوم، بل هي سلسلةٌ ممتدةٌ من السياسات التي سعت إلى عزلها، خنقها، ومن ثم طرحها كورقة تفاوضية. فمن الحصار الاقتصادي والسياسي المفروض منذ ما يزيد عن عقدٍ ونصف، إلى الحروب المتكررة التي دمرت بنيتها التحتية وأثقلت أهلها بالجراح، ويبدو واضحًا أن الهدف كان ولا يزال تحويل غزة إلى عبءٍ يُراد التخلص منه بأي ثمن، لا فقط بتجويعها، بل بكسر إرادتها ودفعها إلى القبول بالحلول المفروضة. ومع ذلك، بقيت غزة عنوانًا للرفض، وشاهدًا على أن الشعوب التي تدافع عن حقوقها لا يمكن ابتزازها.
وفي السنوات الأخيرة، تصاعدت محاولات تقديم مشاريع اقتصادية وإنسانية ظاهرها الرحمة، وباطنها استبدال الحقوق الوطنية بحلولٍ شكليةٍ لا تضمن لأهل غزة سوى البقاء في سجنٍ أكبر قليلًا من المعتاد. فهناك من يروج لفكرة إقامة كيانٍ منفصلٍ في غزة، وهناك من يحاول تسويق مشاريع لإعادة الإعمار بشروطٍ سياسيةٍ تُفرّغ القضية الفلسطينية من محتواها، وكأنّ الحل يكمن في تحويل غزة إلى منطقةٍ اقتصاديةٍ منفصلة، لا علاقة لها بفلسطين الجغرافيا الممتدة على مساحة الـ 27 الف كيلو متر مربع، ولا بالحق الفلسطيني في التحرير والعودة.
لكن السيادة لا تُباع… وغزة ليست ورقة مساومة بل وليست ملفًا في أدراج الساسة. رغم محاولة البعض في التعامل معها كمشكلةٍ سياسيةٍ أو ملفٍ أمنيٍ يمكن معالجته من خلال التفاوض والصفقات، متناسين أن غزة ليست مجرد بقعةٍ جغرافية، بل هي جزءٌ لا يتجزأ من القضية الفلسطينية، وشعبها لا يقل تمسكًا بوطنه عن أي جزءٍ آخر من فلسطين. والذين يظنون أن بوسعهم شراء الولاءات أو تبديل المصائر بصفقاتٍ سياسية، يجهلون أن غزة لا تخضع إلا لأهلها، وأن كرامة الشعوب لا تُقدّر بثمن.
ليست غزة بحاجةٍ إلى مشاريع إنقاذٍ انتقائية، بل إلى حقها في الحرية والاستقلال. ليست غزة في أزمةٍ تبحث عن ممولين ومستثمرين، بل هي في معركةٍ مستمرةٍ ضد من يريدون إفراغها من أهلها، أو فصلها عن عمقها الفلسطيني والعربي. وأي محاولةٍ للالتفاف على حق غزة وأهلها، لن تكون سوى تكرارٍ لمحاولاتٍ باءت جميعها بالفشل، لأن من راهنوا على استسلام غزة أخطأوا الحساب، فهذا القطاع لا يُشترى ولا يُباع، ولا يخضع لمنطق السوق والمساومات.
كلمة أخيرة… إنّ غزة روح فلسطين وليست ورقة مساومة، ورغم كل الجراح، تظلّ الحصن الحصين للقضية الفلسطينية، لا تُباع ولا تُؤجّر، ولا تخضع لحسابات السياسة الضيقة. هي ليست استثمارًا يبحث عن أرباح، ولا عقارًا يعرض في سوق المفاوضات، بل هي إرثٌ وطنيٌ وإنسانيٌ لا يمكن التفريط فيه.
قد تتغير التحالفات، وقد تتبدل المصالح، لكن غزة تظل ثابتةً في مكانها، غير قابلةٍ للمساومة أو التفريط. فمن أراد الحديث عن مستقبلها، عليه أن يدرك أن هذا المستقبل لا يُصنع في عواصم القرار، ولا يُحدّد في صفقاتٍ واتفاقاتٍ سرية، بل يُرسم بدماء أبنائها، بصمود أهلها، وبتمسكهم بحقوقهم.
ومن يتوهم بأن تصبح غزة مجرد كيانٍ وظيفيٍ لخدمة مخططاتٍ إقليميةٍ أو دولية، عليه أن يقرأ تاريخها جيدًا، وأن يدرك أن هذه الأرض لم تكن يومًا إلا عصيةً على الترويض، ثابتةً في وجه العواصف، متمسكةً بهويتها حتى آخر رمق. (*وكالة القدس للأنباء)