عبدالله يونس
في كل مكان حول العالم، يحتفل الناس بدخول العام الجديد بقرع أجراس الاحتفالات وزخّات الألعاب النارية التي تضيء السماء فرحاً، باستثناء غزة التي تعيش زمناً مختلفاً ملؤه سواد الحروب. ففي غزة، تقصي أصوات الانفجارات كلّ أمل بأفق سلام، فيما تحلّ الطائرات الحربية محلّ النجوم، ويجلس الغزيّون في ظلام خيامهم، محاصَرين بالخوف والحرمان، ومستيئسين من نهايةٍ للكابوس.
على أطلال الذكريات
وسط هذا المشهد القاتم، كان محمد الصوراني (40 عاماً)، وهو ربّ أسرة مكوّنة من سبعة أفراد، يجلس برفقة أبنائه الستة أمام خيمتهم، محاولاً إشعال الحطب للحصول على بعض الدفء. والصوراني الذي نزح من مدينة غزة إلى دير البلح، وسط قطاع غزة، يتحدّث بمرارة عن رأس السنة، المناسبة التي كانت في ما مضى تحمل طعماً مختلفاً. ويقول، لـ"الأخبار": "كنت أنتظر ليلة رأس السنة بفارغ الصبر. كنّا نخرج كعائلة، نجلس في مطاعم غزة، نحتفل ونضحك، ونستمتع بمشاهدة الألعاب النارية وهي تضيء سماء المدينة. أمّا الآن، فلم نَعُد نشاهد في السماء سوى الصواريخ وسحب دخان الغارات، ولا نسمع إلا أصوات الطائرات الحربية".
وعن حاله الآن في الخيمة، يتابع الصوراني: "لا أستطيع أن أوفّر الدفء لعائلتي. الخيمة لا تحمي من الرياح الباردة ولا من الأمطار. أبنائي يرتجفون من البرد ليلاً، وينامون على معدة خاوية. أتمنى أن أقدّم لهم شيئاً بسيطاً يجعلهم يشعرون بالسعادة، ولو ليوم واحد، لكنني بالكاد أستطيع إطعامهم". ومستذكراً ليلة رأس السنة في ساحة الجندي المجهول في مدينة غزة، يقول الرجل: "كانت تلك الساحة وجهة الغزيّين للاحتفال. الجميع يجتمع هناك، أطفال وشباب وعائلات، كلّنا نتشارك الفرح نفسه.
اليوم لا أستطيع حتى أن أتخيّل الذهاب إلى هناك، كل شيء أصبح خراباً، وحتى الفرح بات بعيداً عن قلوبنا". لكن لدى الصوراني أمنية للعام الجديد: "أحلم أن تنتهي الحرب، أن أعود إلى بيتي مع أسرتي. أحلم أن أرى أطفالي يضحكون مرّة أخرى، بلا خوف أو حرمان. أتمنّى أن يتمكّنوا من العيش كما أيّ طفل في العالم: بسلام، بأمان، وبكرامة. هل هذا كثير؟ أن نعيش حياةً طبيعية مثل باقي الناس؟".
أمنيات صغيرة
في ليلة رأس السنة من كل عام، اعتادت هبة أبو فنونة (38 عاماً) صنع الحلوى لأطفالها، وجمعهم حول طاولة واحدة، تزيّنها بأبسط الأطعمة التي تستطيع توفيرها. كانوا يحتفلون مع أقاربهم من الأعمام وأبنائهم، يطلقون الألعاب النارية في السماء، ويملأون الحيّ بضحكاتهم وأغانيهم. على أن تلك الذكريات باتت اليوم حلماً بعيد المنال، بعدما نزحت عائلة أبو فنونة من منزلها المدمّر في شمال غزة إلى خيمة مهترئة في منطقة مواصي خانيونس جنوباً، تحيط بها مياه الصرف الصحي من كل جانب، وتجثم عليها الأمراض والخوف.
تتحدّث أبو فنونة، لـ"الأخبار"، بحسرة عن تلك الأيام: "كنت أعتبر ليلة رأس السنة مناسبة خاصة. كنت أعدّ الحلوى بنفسي، أصنع الكعك وأزيّنه، وأرى الفرح في عيون أطفالي وهم يأكلونه. كنّا نلتقي بالأقارب، نطلق الألعاب النارية، ونغنّي معاً. لكن اليوم، كل شيء انتهى. لا أمتلك حتى ما يكفي لإطعام أطفالي، ونعيش على مساعدات بالكاد تكفينا ليوم واحد". وتضيف: "كانت لدينا عائلة كبيرة نجتمع معها في كل مناسبة. اليوم فقدنا نصفهم في الغارات. باتت الاحتفالات ذكرى مؤلمة. كيف لنا أن نفرح ونحن لا نعرف إذا كنّا سنعيش لنرى العام القادم؟".
وعن حال أطفالها في الخيمة، تقول إنهم "يعيشون في رعب مستمرّ. كلّما سمعوا صوت طائرة أو انفجار، ينهارون. أصبحوا يتبوّلون على أنفسهم ليلاً بسبب الصدمة. لا أستطيع أن أطمئنهم، لأنّني أنا نفسي لا أشعر بالأمان. الأمراض بدأت تنتشر بيننا بسبب مياه الصرف الصحي التي تحيط بالخيام، ولا أحد يهتم بنا". أما كلّ ما تحلم به أبو فنونة في العام المقبل، فهو "العودة إلى بيتنا حتى لو كان مجرّد ركام. أريد فقط أن أشعر بأنّنا عدنا إلى مكاننا، أن أضع حدّاً لهذا النزوح وهذا الكابوس. لا أريد أكثر من أن يعيش أطفالي بلا خوف، وأن تنتهي هذه الحرب التي سرقت منّا كل شيء، حتى لحظات الفرح الصغيرة".
عام الإبادة الجماعية
يقول المدير العام للمكتب الإعلامي الحكومي، إسماعيل الثوابتة، في حديث إلى "الأخبار"، إن "قطاع غزة يعيش نهاية عام 2024، وبداية 2025، وقد تحوّل إلى منطقة منكوبة مع تدمير شامل طاول 85% منه، وخسائر بشرية هائلة وصلت إلى 50 ألف شهيد و11 ألف مفقود منذ السابع من أكتوبر 2023".
ويبيّن أن عام 2024، شهد ارتكاب الجيش "الإسرائيلي" المزيد من عمليات الإبادة الجماعية والتطهير العرقي بحقّ العائلات الفلسطينية، مشيراً إلى أن هذا الجيش ارتكب أكثر من 10 آلاف مجزرة بحقّ المدنيين، منها أكثر من 7 آلاف استهدفت العائلات الفلسطينية.
ويضيف: "أباد الاحتلال 1,410 عائلات فلسطينية بالكامل، وقتل 5,444 فرداً منها، كما أباد 3,463 عائلة أخرى، لم يتبقَّ من كل منها سوى فرد واحد فقط". ومن بين الشهداء أيضاً، "أكثر من 17 ألف طفل، منهم نحو 900 طفل دون عمر السنة، ونحو 250 رضيعاً ولدوا في الحرب واستُشهدوا قبل بلوغهم الشهر الأول". أمّا الضحايا من النساء، فقد بلغ عددهن أكثر من 12 ألفاً، إلى جانب ما يقارب 1100 من الطواقم الطبية، و200 صحافي، و90 عنصراً من الدفاع المدني.
ويلفت الثوابتة إلى أن العام المنصرم شهد انتشار الجوع، وسوء التغذية بين الغزيين بسبب الحرب، إذ استُشهد 44 شخصاً بسبب سوء التغذية والمجاعة، فيما لا يزال 3,500 طفل يواجهون خطر الموت للأسباب نفسها. أما عن استهداف دور العبادة، فقد دمّر العدو 819 مسجداً بشكل كامل، و153 بشكل جزئي، إضافة إلى استهداف 3 كنائس، فيما وصلت الخسائر الأولية للحرب إلى 37 مليار دولار، بما يشمل خسائر البنية التحتية والمنشآت الاقتصادية. ويختتم بالقول إن "عام 2025 يهلّ علينا ولا يحلم الغزيّون سوى بأمنية نهاية هذه الحرب الدموية، وتقديم مجرمي الحرب من قادة الاحتلال السياسيين والعسكريين إلى المحاكم الدولية للمحاسبة".