وكالة القدس للأنباء - متابعة
لليوم الخامس عشر على التوالي، يعيش مخيم جنين حصاراً وإطلاق نار متواصلاً أدى إلى مقتل ثلاثة مواطنين وإصابة آخرين بجروح خطرة سقطوا برصاص أجهزة أمن سلطة رام الله، التي تسعى لنزع سلاح المقاومين في كتيبة جنين، التابعة لسرايا القدس، الجناح العسكري لحركة الجهاد الإسلامي. ملاحقة المقاومين من قبل السلطة ليست بالأمر الجديد، لكن العملية التي تجريها السلطة في المخيم تحت عنوان: "حماية وطن" تبدو مختلفة، فحدة اقتتال جنين وتوقيت العملية وطول مدتها وما يصاحبها من حملة منظمة لتشويه وشيطنة المقاومة، تجعلها أكثر تعقيداً هذه المرة.
ولم يعد الأمر يتعلق بتأييد المقاومة المسلحة للاحتلال من عدمه في الضفة الغربية، ولا بموالاة حكام رام الله أو معارضتهم، ذلك أن من شأن أي فلسطيني أن يتساءل: إن سلّمنا جدلاً أن السلطة عاجزة عن مواجهة جيش الاحتلال الذي يستبيح الضفة من شمالها إلى جنوبها، وبكافة تصنيفات مناطقها التي رسمها اتفاق أوسلو، استيطاناً وقتلاً وتدميراً للمنازل وسرقة للبيوت والأراضي، فلماذا لا تقوم بأبسط واجبات الدفاع عن الفلسطينيين في مواجهة المستوطنين وعصاباتهم ومسلحيهم، هم الذين تتعاطى معهم حتى عواصم غربية حليفة لإسرائيل على أنهم منظمات إرهابية أو شبه إرهابية وتفرض على رموزهم عقوبات؟
في ظل هذا الموقف المتفرج، تبادر السلطة إلى شنّ حملة أمنية ضد شبان فلسطينيين يحاولون بقدر المستطاع مقاومة الاحتلال، بدءاً من جنين شمالي الضفة، وهو ما لا تخفي "إسرائيل" سعادتها بحصوله ورغبتها بتمدد اقتتال جنين إلى كافة أنحاء الضفة، جنوبي الضفة وشماليها ووسطها.
في ظل اقتتال جنين المستمر، يؤكد الناطق الرسمي باسم الأجهزة الأمنية لسلطة عباس، المدعو "العميد أنور رجب"، في حديث صحفي، أن الحملة الأمنية التي تنفذها الأجهزة في مخيم جنين ستستمر حتى يتم بسط سيادة القانون واستعادته من أيدي من اعتبرهم "الخارجين على القانون"، الذين وصفهم بأنهم اختطفوا السلطة وحاولوا تحويلها إلى جزيرة معزولة عن سيادة السلطة، من خلال استخدام أساليب بلطجة والاستعداد لإراقة الدماء تجاه المواطنين وقوى الأمن.
السلطة وفتح أكبر خاسرين من اقتتال جنين
يرى خبراء وقيادات ميدانية في أحاديث صحفية، أن سلطة عباس وحركة فتح قد تكونان أكبر خاسرين في هذه المواجهة، خصوصاً مع تصاعد الإشارات التي تعكس بداية تفكك مكونات السلطة. ويوضح الخبير في الشأن الإسرائيلي، معاوية موسى، في حديث لـ"العربي الجديد"، أن الجانب الأميركي صحيح أنه يقف خلف التظاهر بدعم السلطة، لكن الهدف هذه المرة ليس تعزيز قبضتها، فقد تحقق الهدف الذي كانت الولايات المتحدة تريده في السابق، والآن هدفها على العكس تماماً وهو الدفع باتجاه مزيد من التحلل والتفكك داخل جهاز السلطة الفلسطينية.
من جهته يرى القيادي في "فتح"، النائب السابق في المجلس التشريعي المنحل، شامي الشامي، في حديث لـ"العربي الجديد"، أن حركة فتح "ستدفع فاتورة ما يفعله الأمن في مخيم جنين"، موضحاً أن معظم آباء المقاومين في كتيبة جنين ينتمون إلى حركة فتح، ما يجعل الأزمة أكثر تعقيداً. وينتمي الضحايا الثلاثة في مخيم جنين، ربحي الشلبي ويزيد جعايصة ومحمد العامر إلى عائلات تعمل في أجهزة الأمن الفلسطيني، وينتمي بعض أفرادها لحركة "فتح"، ما يجعل معضلة السلطة في مخيم جنين الذي يُطلق عليه "عش الدبابير"، أكبر من أي مكان في الضفة الغربية المحتلة.
هكذا بدأت الأزمة
استعدادات الأجهزة الأمنية لسلطة عباس، لتنفيذ حملة واسعة في مخيم جنين كانت مسألة وقت، في ظل الحديث المستمر عن وجود تسريبات حول نية الأجهزة الأمنية في تنفيذ عملية في المخيم، رغم أن اقتتال جنين الحالي، بدأ فعلياً يوم الثالث من الشهر الحالي. اندلعت شرارة الأحداث عندما اعتقلت الأجهزة الأمنية الفلسطينية الأسيرين المحررين عماد أبو الهيجاء وإبراهيم الطوباسي، وصادرت أموالاً بحوزتهما كانت موجهة لدعم أسر الشهداء والأسرى، فيما تم اتهامهما بأنهما "لصوص وقطاع طرق".
وفي الخامس من الشهر الحالي، استولى أفراد من كتيبة جنين على مركبتين تابعتين للسلطة (واحدة للارتباط العسكري والأخرى لوزارة الزراعة)، ورفعوا أعلام الكتيبة عليها، ما أدى إلى تسارع الأحداث وحصار المخيم من قبل الأمن الفلسطيني، وبدء الاشتباكات بين الطرفين التي لم تتوقف حتى الآن.
محاولات حل الأزمة
بعد يوم من تصاعد وتيرة الأحداث في مخيم جنين، كانت شخصيات قيادية واعتبارية بالمخيم تحاول احتواء الأزمة، إذ يوضح القيادي في "فتح" شامي الشامي، في حديثه لـ"العربي الجديد"، أن هناك اقتراحاً قدمه خلال اجتماع مساء الجمعة في 13 من الشهر الحالي، لحل الأزمة، وذلك بعد التشاور مع أهالي الشهداء وكتيبة جنين. تمثل المقترح، وفق الشامي، بنزول وفد أمني إلى المخيم من دون مصفحات، فيما تقوم فرقة تفكيك المتفجرات بعملها من منطقة حي الزهرة إلى دوار العودة، إضافة إلى دخول المخيم بسيارات الأمن وعتادها وليس بالمصفحات، لأن عنصر أمن في مصفحة قتل الشاب ربحي الشلبي.
يتبع ذلك بحسب المقترح، التجول في حارات وأزقة المخيم والجلوس في أحد دواوينه، ما من شأنه أن يكسر الحاجز بين الأمن والمخيم، وفي اليوم التالي تمارس الشرطة الفلسطينية عملها بالمخيم بطريقتها، وفي حال كان هناك مطاردون إذ ما تم التوصل إلى حل معهم لتسوية أوضاعهم سيكون أمراً جيداً لأن عددهم أكبر من المعلومات التي لدى السلطة.
فرج: سأدخل المخيم بألف جندي!..
ويوضح الشامي: "قلنا لهم إن هذا أفضل اقتراح، لأنه يضمن أن يتم حل الأزمة على مراحل"، لافتاً إلى أن رئيس جهاز المخابرات العامة الفلسطينية اللواء ماجد فرج، رد حينها بالقول: "ندرس الاقتراحات ونرد عليكم". لكن اقتتال جنين استمر، ووفق الشامي، بدأ بعد ذلك النقاش يعلو بين قادة الأمن ويحتد إلى أن قرر فرج: "سأدخل المخيم بألف جندي، وسأفكك جميع العبوات، وسأعتقل جميع عناصر الجهاد الإسلامي المسلحين". وبالفعل، دخلت قوات الأمن أطراف المخيم صباح السبت الماضي، واندلعت اشتباكات جديدة لا تزال مستمرة. ويعقب الشامي، بالقول إن "الحل على طريقة الأمن صعب جداً، وإذا كانت إسرائيل تهدد بدخول المخيم عبر جرافاتها التي تستعد على حواجز جنين منذ يومين، فلتفعل، هذا أفضل من أن يقتتل الأمن مع المخيم".
معادلة جنين
تُعدّ المعادلة في مخيم جنين أكثر تعقيداً من أي مكان آخر في الضفة الغربية المحتلة، إذ باءت جميع محاولات رئيس السلطة للقضاء على المقاومة في المخيم بالفشل على مدار السنوات الماضية. يعود ذلك إلى عدة عوامل، أبرزها الحاضنة الشعبية القوية للمقاومة في مدينة ومخيم جنين، والتي تظل متماسكة رغم الضربات الكبيرة التي تلقتها باعتقال رموز سياسية وتنظيمية بارزة مثل عضو المجلس الثوري جمال حويل ومسؤول إقليم "فتح" في المخيم عطا أبو رميلة وغيرهما. هؤلاء القادة كانوا يقومون بدور رجال الإطفاء، إذ يسارعون لفض أي سوء تفاهم أو خلاف قبل أن يتفاقم سواء بين الفصائل في المخيم أو بين الأجهزة الأمنية والمخيم.
الوضع في جنين مختلف تماماً عن نابلس، حيث لا يمكن تطبيق نموذج التسويات الأمنية مع المطاردين في جنين كما جرى في نابلس. في نابلس، تولّت قيادات أمنية محلية تفكيك مجموعات المقاومة، مستخدمة أساليب الترغيب والترهيب مع المقاومين المطلوبين، بما في ذلك الوصول لاعتقال من ينشر صورة أو يضع "إعجاب" (لايك) لمقاوم. وبلغ هذا الأسلوب ذروته قبل اغتيال الأسير المحرر عبود شاهين (برصاص الاحتلال مطلع أكتوبر/ تشرين الأول الماضي)، عندما تم استدعاء العشرات لمقرات الأمن الفلسطيني.
أما في جنين، فتزداد الأمور تعقيداً بسبب التداخل القوي بين حركة فتح والأجهزة الأمنية والمقاومين من مختلف الفصائل الفلسطينية بشكل مميز على صعيد الضفة الغربية. وإضافة لما يؤكده الشامي أن معظم آباء المقاومين في مخيم جنين من حركة "فتح"، فإن المؤثرين في وفد المخيم الذي قابل قادة الأجهزة الأمنية في جنين، هم من عناصر الأمن وآباء لشهداء قاوموا في صفوف الكتيبة التي تستوعب جميع الشبان من مختلف الفصائل الفلسطينية. بالتالي من الصعب على هؤلاء أن يوافقوا على أي حلول أمنية أو يلتفوا على الكتيبة بحلول مضللة- رغم أنهم يعملون في الأمن- تجحف بحق رفاق أبنائهم في الكتيبة.