علي حيدر
رغم أن المقاومة فاجأت العدوّ بصمودها وسرعة استعادة فعاليتها، إلا أن ذلك لا يعني أن الظروف نضجت لتراجعه عن سقوفه العالية وإمكانية التوصل الى اتفاق لوقف النار في هذه المرحلةإ إذ إن هناك عوامل ومتغيرات إضافية تؤثر في خياراته وقراراته. ولا تُغيّر في هذا الأمر وعود المبعوث الأميركي الخاص عاموس هوكشتين ببحث النقاط اللبنانية للتسوية مع بنيامين نتنياهو. فلا إدارة جو بايدن كانت تعتزم الضغط على حكومة العدوّ ولا التوقيت - قبل أيام معدودة من الانتخابات الرئاسية - يسمح بذلك. وإذا كانت لإدارة بايدن حساباتها عشية الانتخابات الرئاسية لتحقيق إنجاز تهدئة على هذه الجبهة أو تلك، فإن لنتنياهو حساباته المغايرة ومن ضمنها ما سينتج من تلك الانتخابات. لذلك، لم تكن هناك في الأساس أيّ مقوّمات موضوعية لإحداث اختراق في هذه المرحلة. مع ذلك، تبقى مسألة مهمة، وهي أنّ العدوّ لمس حقيقة أن لبنان الرسمي ليس في وارد تقديم تنازلات تحقق له بالسياسة ما عجز عنه في الميدان.
في المقابل، مشكلة البعض في قراءة الحرب واستشراف آفاقها أنه توقّف عند سلسلة الضربات القاسية التي تلقّاها حزب الله بين 17 و27 أيلول من تفجيرات الـ«بيجر» الى اغتيال أمينه العام، ولم يعد يرى إلا وفق ما كان يراهن عليه الأميركي و"الإسرائيلي" من تداعيات، متجاهلاً المتغيرات التي استجدّت وأنتجت وقائع جديدة في الميدان، في حين أن مواكبة هذه الوقائع توفّر الأرضية لبلورة فهم أدقّ وأشمل.
وتجدر الإشارة إلى أن هذه المتغيّرات حاضرة في كيان العدو كمسلّمات لدى الخبراء والمعلّقين الذين تلمّسوا فشل الرهان على تداعيات الاغتيالات التي سجّلها العدوّ ضد منظومة القيادتين السياسية والجهادية، لكنهم عاينوا حقيقة أن ذلك لم يؤدّ الى انهيار حزب الله ولا إلى تفكيك منظومته، ولا نجحت إسرائيل في إخضاعه لشروطها. بل سرعان ما استعاد فعاليّته وانتقل الى المبادرة العملياتية والدفع نحو فرض معادلات ردّ، ما فرض سيناريوات وخيارات بديلة أمام منظومة القرار السياسي والأمني في تل أبيب.
وقد أدى عدم نجاح قيادة العدو في رهاناتها، رغم المفاجآت التي نجحت في تسجيلها، الى وضعها أمام خيارَي الدفع نحو تسوية أو التورط في حرب استنزاف مفتوحة. انطلاقاً من ذلك، قدَّم الجيش تقديراته وتوصياته بالعمل على صيغة تسوية انطلاقاً من الإنجازات التكتيكية التي حققها، وإلا فإن "إسرائيل" ستتورّط برياً في عمق جنوب لبنان، أو في سيناريو استمرار تبادل الضربات التي تطال العمقين اللبناني و"الإسرائيلي"، مع ما يترتّب على ذلك من نتائج وتداعيات داخلية.
في المقابل، حدّد نتنياهو معالم خياره الاستراتيجي إزاء حزب الله بالتأكيد على إخراجه الى ما وراء نهر الليطاني، مع اتفاق أو بدونه، وبمواصلة ضرب أيّ محاولة لإعادة بناء وتطوير قدراته بعد الحرب، و«قطع الأوكسجين بين إيران وحزب الله». وتكشف هذه المواقف أن "إسرائيل" تتعامل مع أي طرح تسووي على أنه استمرار للحرب باتجاه الأهداف نفسها.
وقد ازدادت حاجتها الى هذا المسار بعدما فشلت في حسم المعركة عسكرياً، ولذلك رمى البيت الأبيض بثقله للضغط على لبنان وتحفيز قواه السياسية وقياداته من أجل الانتفاض على حزب الله بهدف عزله وإخراجه من دوائر التأثير والقرار.
بتعبير آخر، يسعى الأميركي الى إنتاج سلطة سياسية معادية للمقاومة تتبنّى الأولويات "الإسرائيلية"، بغضّ النظر عن صيغة إخراجها بطابع المصالح الوطنية اللبنانية! وفي ما يتعلّق بالسيناريو البديل الذي حذّرت منه المنظومة الأمنية باستمرار تبادل الضربات، فإن التقدير السائد هو أن إسرائيل لن تحقق عسكرياً، بشكل جوهري، أكثر مما حققته حتى الآن. ولا يوجد أيّ أفق إزاء إمكانية تراجع حزب الله عن ثوابته. ولذلك، النتيجة ستكون استمرار الاستنزاف المتبادل الى حين نضوج التوصل الى اتفاق سيكون مشابهاً لما كان يمكن التوصل إليه سابقاً.
مع ذلك، فإن الجبهة اللبنانية - الإسرائيلية مفتوحة على متغيّرات إقليمية ودولية في أكثر من اتجاه، أبرزها الردّ الإيراني المرتقب وما سيليه من ردود فعل "إسرائيلية" وأميركية، حيث من الواضح أنه سيؤدي الى دفع التطورات نحو انفجار كبير على المستوى الإقليمي، أو نحو معادلات جديدة - مع انفجار إقليمي كبير أو بدونه - تؤدي في نهاية المطاف الى تبديل حسابات العدوّ وتقديراته. وفي كلتا الحالتين، سيشكل هذا المسار محطة تأسيسية ومفصلية في بلورة نتائجه وتداعياته. هذا من دون إغفال هوية الرئيس المقبل للولايات المتحدة الذي سيحدد توجّهاته الشرق أوسطية انطلاقاً من الوقائع التي سيواجهها وفي مقدمتها المواجهة الإيرانية – "الإسرائيلية".
المصدر: جريدة الأخبار اللبنانية