فؤاد بزي
قبل شروق الشمس، وقبل الإعلان عن سريان وقف إطلاق النار، بدأت رحلة عودة الجنوبيين إلى قراهم ومدنهم التي تركوها «الإثنين المشؤوم»، أي في 23 أيلول الماضي. خلال 64 يوماً قضوها في التهجير، كانوا يعرفون أنّ هذا اليوم آت لا محالة.
هكذا تحوّلت طرقات الجنوب إلى بنيان مرصوص من السيارات. سريعاً ازدحمت الطرقات، هذه المرة بالعائدين لا النازحين. وهم في عودتهم، توقفوا عند محطاتهم «الطبيعية» لشراء حاجاتهم من خبز وقهوة ومواد أولية لصنع الأطعمة في نقاط البيع في منطقة خلدة وكأنّ الحرب لم تكن.
يُعرف الجنوبيون العائدون من سياراتهم التي «حُشيت» بأعداد أكبر من طاقتها الاستيعابية من الركاب، وحُمّلت بما تيسّر من أدوات النزوح مثل الفرش والحرامات التي ستُستخدم أثاثاً بديلاً بعد تدمير منازلهم. مع ساعات الفجر الأولى، كانت طوابير السيارات ممتدّة على عدّة كيلومترات، من حاجز الجيش على نهر الأولي، وصولاً إلى الجية
.
من بعد مدينة صيدا بدأ الأهالي بالتوزع على قراهم المنكوبة. ورغم أنّ العدو تقصّد من قصفه جعل المناطق غير قابلة للحياة، إذ قطّع الطرق، ودمّر المرافق الأساسية وساحات القرى بشكل رئيسي، إلا أنّ مشاهد العودة اختزنت التحدّي والرفض للتسليم بأوامر جيش الاحتلال المطالب بعدم العودة، فعادوا للإقامة في قرى فقدت كلّ مقوّمات الحياة، حيث لا توجد محطات وقود ولا نقاط بيع للمواد الغذائية. وحتى أصوات الرصاص والقذائف من النقاط التي لا يزال جيش الاحتلال موجوداً فيها، لم تمنع أهالي بنت جبيل مثلاً من العودة إلى بيوتهم المقابلة لمارون الرأس.
في مجدل سلم، لم يسلم أيّ من البيوت أو المحالّ في ساحة البلدة وطريقها الرئيسي من الدمار. إلا أنّ أهالي القرية سرعان ما استعدّوا لنفض غبار العدوان، فازدحمت الساحة بالجرافات والآليات لفتح الطرقات، والبدء بإزالة الردم. وأعاد صاحب إحدى المزارع أبقاره إلى حظائرها، وأعلن عبر رسائل «الواتسآب»، أنّ «اللبن متوافر ابتداءً من الغد (اليوم)».
أهالي البلدة لم يستغربوا النصيب الكبير من الاعتداءات التي تعرّضت لها البلدة، فهي «سند المقاومين» يقولون، ويشيرون إلى راجمات صواريخ مهجورة في أحد الأودية. صورة مجدل سلم تكررت في برعشيت وصفد وكونين. ساحات مدمّرة، وأعمال إنقاذ متفرقة في عدد من البيوت لانتشال جثامين شهداء لا تزال مطمورة تحت الركام. ومبان خدماتية تحوّلت إلى أنقاض، كمبنى الإسعاف التابع للهيئة الصحية في ساحة برعشيت حيث استشهد 10 مسعفين.
وكلما اقترب المسير من قرى المواجهة الأمامية، مثل مارون الرأس وعيترون والعديسة... تظهّرت بشكل أكبر ضراوة المواجهات بين المقاومين والعدو. طرق مقطوعة بحفر يناهز عمقها العشرة أمتار، عزلت عدداً من القرى، ومنعت الأهالي من الوصول إليها. أهالي بلدتي طلوسة ومركبا تجمّعوا في وادي الحجير، ينتظرون جرافات اتحاد بلديات جبل عامل لردم إحدى الحفر الضخمة ليتمكنوا من العبور. بعضهم فضّل ترك السيارة والتوجه سيراً، وآخرون حاولوا سلوك طرقات أخرى، إنما من دون جدوى
.
وإلى جانب عودة الأهالي، كان لافتاً الظهور العلني لمقاتلي المقاومة الذين كانوا يهمّون بالخروج من القرى. هذه المرّة تعرّف الأهالي إليهم عن كثب. في قرى جنوب نهر الليطاني تحديداً، وبعد المعركة الطويلة مع العدو، كانت المقاومة حاضرة بشكل علني لـ«لملمة المظاهر العسكرية». وهنا ظهر تمسك الأهالي بـ«ذهبهم المكنون» كما يقولون. نسوا بيوتهم، وحمّلوا الصواريخ، والعتاد، والأسلحة على ظهر شاحنات للمقاومة قادها مقاومون وانسحبت في الوديان بصمت. حتى راجمات الصواريخ، الصالحة والمصابة، شارك العائدون في رفعها من الحقول، أو أمّنوا من بيوتهم المقصوفة شوادر لتغطيتها.
في كلّ حي من أحياء القرى الأمامية عرس صغير للمقاومين المنسحبين بعد انتهاء المواجهات. في قبريخا، وقف أبو إبراهيم تحت شجرة خرّوب، وحمل إبريق شاي ساخنٍ مع كميات من الخبز الطازج الذي أحضره من بيروت. وكلّما مرّت دراجة تحمل شباناً من غير أبناء البلدة حتى بادرهم بالتحية وأصرّ عليهم بشيء من الخبز أو الشاي، وأطلق صوته عالياً بـ«الله معكم».
في كونين القريبة من بنت جبيل، ظهر المقاومون القادمون من بعلبك في أحياء القرية. جلال، كما يعرّف عن نفسه، يسأل عن اتجاه الطريق للوصول إلى النبطية. ورفض بإصرار «عروضات» ملحّة لعدد من أهالي كونين لإيصاله إلى مقصده، إذ كان يريد تنفيذ وصية أحد الشهداء بإيصال دراجته إلى أخيه في النبطية.
الدراجات شواهد ارتقاء شهداء
في قرى الجنوب الأمامية يمكن توقّع أمكنة ارتقاء الشهداء من هياكل الدراجات النارية أو السيارات المدمّرة والمحترقة. على جانبي الطريق الممتد من برعشيت إلى بنت جبيل، تناثرت هياكل 3 دراجات نارية، وسيارة من نوع «رابيد». «على كلّ دراجة ركب شهيد على الأقل»، بحسب مهدي ابن قرية شقرا. ويشير إلى إحداها قائلاً: «هنا استشهد أخي، وهذه دراجته». ويضيف: «عرفتها رغم احتراقها بشكل كامل من حبات المسبحة التي علّقتها له في مقبض الدراجة".
65 يوماً ومارون الرأس عصية على العدو
كذب العدو وإعلامه. كلا، لم يتقدم كيلومترات عشرة، ولا حتى خمسة. تقدّم عدّة مئات من الأمتار، ولم يستقر في الحي الغربي في مارون الرأس، بل راقب من بعيد وصول الناس لتفقد بيوتهم وأرزاقهم، وفتح الطرقات المؤدية إلى ساحات القرية. أمس، عندما حاول عدد من الأهالي إزالة علم الاحتلال، هاج الثور الصهيوني وظهر. فأرسل آليتي «هامفي» لتعقب 3 شبان، وبدأت بإطلاق النار بجنون فوق الرؤوس لمنع أهل الأرض من إزالة رجس المحتل.
«تأجّلت عملية دوس العلم»، يقول محمد علوية، «إلا أنها لم تُلغ، فهم لن يرحلوا اليوم عن مارون الرأس، وسيبيتون في أحد بيوتها المقابلة لبنت جبيل»، ويتوعّد من بقي من جنود العدو في قريته بأنّ "غداً يوم آخر".