راغدة عسيران
إن القضاء على الفاشية الأوروبية المتمثلة بالنازية، بعد الحرب العالمية الثانية، لم يقض تماما على بذور الفاشية في الدول الأوروبية، بسبب التاريخ الاستعماري لمعظم هذه الدول أولا وتبنّيها المشروع الصهيوني والمساهمة في تكريسه في فلسطين المحتلة ثانيا. ما يعني أن بذور الفاشية تتمثل أساسا بالفكر العنصري الغربي، الذي اعتبر أن الحضارة الأوروبية هي الأعلى بين حضارات العالم، بسبب لون البشرة البيضاء وشكل الجمجمة الذي يؤثر على الفكر والإبداع.
في العقود الأخيرة، وخاصة مع بداية الألفية الثانية، شهدت الدول الأوروبية صعودا ملحوظا للتيارات الفاشية، على أساس الرفض لوجود الأجنبي (السارق للقمة العيش من "الأصلاني") وحماية الهوية "الاصلانية" من الغرباء، وخاصة من المسلمين المنتشرين في عدة دول أوروبية. لقد وصلت الجاليات الإسلامية الى الدول الأوروبية خلال فترات متفاوتة، وخاصة بعد الحرب العالمية الأولى، عندما لجأت هذه الدول الى جلب اليد العاملة الرخيصة من مستوطناتها لتشغيل مصانعها ومزارعها ومناجمها، وأحيانا في جيوشها.
ويضاف الى أسباب صعود التيارات الفاشية الأزمات الأقتصادية الممتالية التي تضرب هذه الدول بسبب جشع الرأسماليين وسيطرة الشركات الكبرى على المرافق الاقتصادية والإعلامية، ما أزاح عن سوق العمل عشرات، بل مئات الآلاف من المعاملين، الذين غزّوا التيارات الفاشية المختلفة في بلدانهم. فلعب الإعلام الذي سيطرت عليه هذه الشركات دورا مهما في اتهام "الملوّنين" بتفاقم الأزمات المعيشية التي تعاني منها شعوب القارة. فتم اختراع مسألة "الثقافة الأصلانية" لمواجهة الثقافة "الواردة" و"المختلفة" التي تكتسح المجتمعات الغربية.
فكان دورالامبرطوريات الإعلامية، التي أعاقت دور الوسائل الإعلامية الصغيرة الرافضة لهذا المسار، أساسيا في تغذية هذه التيارات الفاشية، لا سيما بعد شنّ الولايات المتحدة والغرب عموما حربا على ما يسمى ب"الإرهاب" حيث أصبح العربي والمسلم هدفا مشروعا لهذه التيارات الفاشية المتنامية.
منذ بداية حرب الإبادة الجماعية ضد الشعب الفلسطيني في أكتوبر 2023، تبنّت الحكمومات الأوروبية الرواية الصهيونية الكاذبة، ودعمت بسلاحها ومخابراتها وإعلامها وإقتصادها، وأيضا بجنودها، هذه الحرب الشاملة الهمجية، بزعم محاربة "الإرهاب" الفلسطيني.
ومنذ اليوم الأول، كان الإعلام الأوروبي الرسمي والمملوك من الأمبرطوريات الإعلامية، ينقل ويتبنى بكل تفاصيلها الأكاذيب الصهيونية، دون تردّد، ما شرعن الهجوم الأمني غير المسبوق على كل من يطالب بوقف المجازر ومن يدعم الشعب الفلسطيني ومقاومته الشرعية ضد الكيان الاستيطاني.
بعد محاربة الكلمة، على مواقع التواصل الاجتماعي وفي الوسائل الإعلامية الرسمية وغير الرسمية، حيث تم طرد مراسلين وصحافيين رفضوا الإذعان لصهيونية مالكيها، واجهت القوى الأمنية الأوروبية المظاهرات والوقفات الشعبية الرافضة لحرب الإبادة. فتم اعتقال المئات من المحتجين، وخاصة في ألمانيا، فقط لمنع صعود أصوات مغايرة لما يريده الحكام. فصدرت قوانين في أغلب البرلمانات لتجريم الدعم للشعب الفلسطيني، وخاصة في ألمانيا حيث يتوجّب على من يطلب الجنسية أن يفصح بتأييده للصهيونية وأقامة الكيان الاستيطاني على أرض فلسطين.
وكانت فرنسا قد سبقت حرب الإبادة بإصدار تشريعات تمنع الدعوة الى مقاطعة كيان العدو بحجة أنها دعوة "معادية للسامية". فشعار "معاداة السامية" الذي ظهر كشعار ترهيبي لكل منتقد للإرهاب الصهيوني قبل فترة أصبح الآن الشعار الذي تحارب الأنظمة الأوروبية من خلاله الحريات (الكلمة والاحتجاج والرموز الفلسطينية كالكوفية وخريطة فلسطين والشعارات التحررية).
فيما تواصل الحكومات الأوروبية المشاركة في حرب الإبادة، أخذ الإعلام دور المبرِّر لكل المجازر ولكل التعجرف الصهيوني، حتى ضد الجهات الرسمية الأوروبية. لقد برّر الإعلام الفرنسي مثلا، بما فيه التابع للحكومة، الإهانة التي وجهتها الشرطة الصهيونية لشرطي فرنسي مرافق لوزير الخارجية الفرنسي قبل أسابيع، بدلا من تأييد موقف الحكومة الفرنسية التي احتجت على الإهانة.
وأخيرا، كانت حادثة أمستردام خلال مباريات كرة القدم، حيث هاجم مؤيدو الفريق الصهيوني بالشعارات العنصرية والإستفزاز والهجوم العنيف، ليس فقط مؤيدي الشعب الفلسطيني من هولنديين وعرب، بل الجماهير الهولندية الغاضبة ضد الإستعلاء العنصري الصهيوني، في عاصمة أوروبية يؤيّد حكامها الكيان الاستيطاني.
رغم وضوح الصورة، وبعد التصريحات الصادرة عن الحكومة الصهيونية الفاشية التي أبدت استعدادها لأرسال جيشها ل"حماية" الصهانية من "البوغروم" (الإبادة بلغة الصهاينة) الهولندي، تبنّت الحكومات الغربية، وخاصة الأوروبية، الرواية الكاذبة الصهيونية وتصرّفت على أساسها بقمع الحريات (التظاهر والرأي المؤيد لفلسطين، منع الأعلام الفلسطينية خلال المباريات الرياضية)، باستثناء أسبانبا وإيرلندا، في الوقت الحاضر، وبث الدعاية الصهيونية ومحاربة من ينكرها.
تعيش الدول الأوروبية اليوم العصر الصهيوني بكل تجلياته: صعود التنظيمات والأحزاب الفاشية، وصعود خطاب الكراهية المعادي للاسلام والمسلمين وللعرب ولفلسطين في الوسائل الإعلامية الرسمية وغير الرسمية، إصدار تشريعات لقمع الحريات وتجريم الدعم لفلسطين، الترويج للأكاذيب الصهيونية وتبرير المجازر وقتل الإعلاميين في فلسطين ولبنان، وتدمير المستشفيات ومراكز الإيواء والبنايات، وإخفاء المعلومات عندما لا يمكن تبرير الجرائم (وضع الأسرى الفلسطينيين بشكل عام)، ومؤخرا، الأزمات السياسية التي تضرب البرلمانات والحكومات الأوروبية عموما بسبب التبني الأعمى لجرائم العدو من قبلها.
لم تكن الدول الأوروبية غائبة يوما عن الصراع في المنطقة، بل ساهمت بشكل ملموس في تجزئة الأمة وإقامة الكيان الصهيوني وتشريد الشعب الفلسطيني، وحاربت المقاومة الفلسطينية واللبنانية واتهمتها ب"الإرهاب"، وتشارك اليوم بحرب الإبادة الجماعية في قطاع غزة وتساند فعليا التمدّد الاستيطاني في الضفة الغربية وتهويد القدس، رغم تصريحاتها الباهتة.
واليوم، أصبحت الحرب بين الإرهاب والفاشية المتمثلين بالكيان الصهيوني من جهة، وبين الحرية والكرامة المتمثلين بالمقاومة الفلسطينية واللبنانية ومحور المقاومة من جهة أخرى، في قلب الدول الأوروبية. فالصراع تمّدد اليها، بسبب مشاركة أنظمتها بحرب الإبادة. لذلك، تقع مسؤولية المحافظة على الحريات ومحاربة العنصرية والفاشية على عاتق الشعوب الأوروبية. فلم تعد اليوم المسألة الدفاع فقط عن الشعب الفلسطيني، بل أصبحت مسألة الدفاع عن الشعوب الأوروبية ضد الفاشية والعنصرية.