/مقالات/ عرض الخبر

الصراع على الوعي: القدس في الواجهة

2024/11/08 الساعة 12:25 م
المقدسيون يواجهون الهدم والتهجير والتهويد
المقدسيون يواجهون الهدم والتهجير والتهويد

راغدة عسيران

لم تبدأ الحرب التدميرية والتهويدية على القدس بعد معركة السابع من أكتوبر المجيدة التي شنّتها المقاومة الفلسطينية في قطاع غزة على كيان العدو، لكن اغتنم العدو فرصة توّجه الأنظار نحو حرب الإبادة الجماعية في القطاع للانتقام وتصعيد حربه على مدينة القدس والمقدسات.

فارتفعت وتيرة هذه الحرب على المعالم الحضارية في مدينة القدس، منذ ذلك الحين، واتخذت مسارات عدة: مسار تهويد وتدمير المقدسات، وخاصة خلال فترة الأعياد اليهودية، مسار الهدم والتجريف للمباني والمنشآت الفلسطينية، مسار تهويد التعليم لصنع جيل فلسطيني متغرب عن حضارته وثقافته وتاريخه، مسار القمع الذي تكشّف بالقتحامات اليومية للأحياء والبلدات والمخيمات الفلسطينية والاعتقال والقتل والملاحقة، ومسار الاستيطان وسرقة الأرض والمنازل

تجلت الهجمة التهويدية في فرض إجراءات مشددة أمام أبواب المسجد الأقصى، وفي أزقة البلدة القديمة، أمام المقدسيين والفلسطينيين بشكل عام، وفي اقتحامات المستوطنين وقياداتهم السياسية والعسكرية، للمسجد الأقصى المبارك، وخاصة في مواسم الأعياد اليهودية حيث تم تنفيذ شعائر تلمودية، منها لأول مرة منذ احتلال القدس.

وخلال الشهر الأخير، اقتحم حوالي عشرة آلاف صهيوني المسجد الأقصى، في الوقت الذي تواصل فيه قوات العدو التضييق على المصلين الفلسطينيين من الدخول اليه، وإصدار أوامر منع التواجد فيه لعدد من المرابطين والمرابطات، أو حتى التواجد في البلدة القديمة.

أشار "مركز معلومات وادي حلوة" الى أن سلطات الاحتلال أصدرت منذ 7/10/2023 حتى 6/10/2024 قرابة 380 قرار إبعاد عن المسجد الأقصى، والقدس، والبلدة القديمة، ومنع من دخول الضفة الغربية. وقبل أيام، أصدر العدو قرارا بهدم مسجد الشياح في جبل المكبر، الذي شيّد قبل 20 عاما، على أراضٍ تملكها عائلة جمعة الفلسطينية، بحجة عدم الترخيص لبنائه.

في أواخر كانون الثاني/يناير 2024، كشفت مصادر مقدسية النقاب عن بدء الاحتلال العمل على بناء مركز تهويدي إلى الغرب من المسجد الأقصى، مهمته تدريب المستوطنين وتقديم مواد تتمحور حول بناء "المعبد". وبدأ الاحتلال تنفيذ مشروع تهويدي ضخم في محيط المسجد الأقصى تحت عنوان: "إحياء الإرث اليهودي". يشمل المشروع تغيير أبواب البلدة القديمة، وخاصة تلك القريبة من المسجد الأقصى، وطمس المزارات والمعالم التاريخية، وتهويد قلعة القدس عند باب الخليل، وتهويد منطقة باب الخليل، وتهويد بعض المدارس العثمانية.

وتشير التقارير الحديثة الى ارتفاع عدد عمليات الهدم (المنازل والمنشآت المختلفة) في معظم الأحياء والبلدات المقدسية (سلوان، وخاصة حيي البستان ووادي الربابة، ووادي قدوم، والطور، ووادي الجوز، وجبل المكبر، وقرية بدو، وصور باهر وحزما وغيرها) حيث نفذت قوات الاحتلال في الشهر الأخير (أكتوبر 2024) 17 عملية هدم وتجريف، في حين ارتفعت عمليات الهدم منذ السابع من أكتوبر 2023 الى 320 عملية طالت هذه الأحياء والقرى.

في يوم 5/11، نفذت بلدية العدو "مجزرة الهدم" في حي البستان في سلوان طالت 7 مساكن وشردت العشرات من المقدسيين من أجل إقامة حديقة توراتية تحاصر المسجد الأقصى.  ورصد مركز معلومات وادي حلوة 6 عمليات تفجير منازل عائلات الشهداء فادي جمجوم، وخالد المحتسب، وإبراهيم ومراد نمر، وخيري علقم، والأسير الطفل محمد زلباني.

توسّع بشكل غير مسبوق تعليم المنهاج "الإسرائيلي" في مدارس القدس، وتحريف المنهاج الفلسطيني، وطباعة نُسخ جديدة مزيّفة من هذه الكتب وفرض تدريسها في كل المدارس التابعة للبلدية وفي المدارس الأهلية الخاصة التي تتقاضى مخصصات مالية جزئية من السلطات الصهيونية.

بعد السابع من أكتوبر 2023، اتخذت قوات الاحتلال إجراءات حاسمة تجاه المدارس غير الرسمية (الأهلية والخاصة)، فيما يخص استخدام المنهاج الفلسطيني. شملت الإجراءات اقتحام وتفتيش جميعها، ويسرد الصحافي رامي صالح أن المفتشين اقتحموا الصفوف وفتشوا في الحقائب المدرسية ليطلعوا على الكتب التي يستخدمها المعلمون. وبعد اقتحام وتفتيش بعض هذه المدارس واكتشاف كتب المنهاج الفلسطيني، أوقفت سلطات الاحتلال التمويل الجزئي بشكل مؤقت وهددت بسحب الترخيص الخاص للمدرسة، ما دفع بقية المدارس إلى سحب كتب المنهاج الفلسطيني من الطلبة والمعلمين واستبداله بالكتب المحرّفة المطبوعة من قبل المحتلين الصهاينة.

تضاف هذه الإجراءات التهويدية الى تصاعد وتيرة الاعتقالات بحق المقدسيين واقتحامات الأحياء والبلدات ومخيم شعفاط، وملاحقة الشبان وضربهم بطريقة وحشية (في عناتا قبل أيام) وفرض الضرائب الانتقامية بلا حساب، والاستيلاء على فندق البتراء بالقدس، وسرقة الأراضي كما تبيّن مؤخرا أن "الصندوق القومي اليهودي" سرق 64 دونمًا من أراضي قرية أم طوبا، الواقعة جنوب مدينة القدس عبر تسجيلها باسمه،  وملاحقة المنتوجات الفلسطينية في شوارع القدس.

يهدف العدو من خلال هذا العدوان على أهل البلاد، ليس فقط ترويعهم وإسكاتهم ونفي حقوقهم واعتبارهم سكان "غرباء" في "العاصمة اليهودية" يمكن طردهم وقتما يشاء، بل السيطرة على عقولهم ووجدانهم وذاكرتهم، ومحو تاريخهم من خلال اختراع لهم هوية فارغة، متصهينة، فاقدة للتاريخ والانتماء الى الأمة العربية والإسلامية.

لقد حاول المستعمرون الفرنسيون القضاء على الحضارة الإسلامية في الجزائر واختراع ثقافة هشة بلا جذور يمكن التلاعب بها كما يشاؤون. استولوا بداية (1830) على الأوقاف الإسلامية التي تموّل الخدمات الدينية والثقافية والتعليمية والمجتمعية للجزائريين، وأخضعوا لاحقا كافة النشاطات الدينية والمبادرات الخيرية للرخصة المسبقة. ثم هدموا المساجد والزوايا بعد صعود عمليات المقاومة ونهبوا وحرقوا المكتبات (مكتبة عبد القادر الجزائري) وحاربوا اللغة العربية لأهميتها في الحفاظ على الهوية الجزائرية. "لقد ربط الاستعمار الاستيطاني الفرنسي إمكانية بقاءه وإستمراريته مستقبلا بدرجة المسخ الثقافي والديني واللغوي للأهالي الجزائريين سواء بفرنستهم أم بتجهيلهم" (د. عماد لبيد).

وكما قاوم الجزائريون، لم يستسلم المقدسيون لكافة الإجراءات الصهيونية التهويدية والتدميرية للحضارة في القدس وفلسطين، إن كان بالكلام أو المواقف الشجاعة لعلماء القدس، مثل الشيخ عكرمة صبري المحاصر والمبعد عن المسجد الأقصى، أو الشيخ جمال مصطفى من بلدة العيساوية الذي اعتقل وحكم عليه بالسجن 3 سنوات بتهمة التحريض ومساندة غزة، كما اعتقلت المرابطة سحر النتشة من منزلها، ثم افرج عنها شرط الحبس المنزلي والإبعاد عن البلدة القديمة... يواصل أهل مخيم شعفاط وعناتا والعيساوية وعدة بلدات التصدي للاقتحامات اليومية باشعال النيران والمفرقعات على جنود الاحتلال، وينفذ المقدسيون عمليات دهس (الشهيد سامي فتحي زكريا العامودي)  أو إطلاق نار على الجنود والمستوطنين. وقبل أيام، أصدرأهالي سلوان الدعوة لأداء صلاة الجمعة على أنقاض المنازل التي هدمها العدو مؤخرا وقرّروا عدم هدم منازلهم بأيديهم مهما كلفت الغرامات المالية، في استعادة لقرار سابق اتخذه المقدسيون وعلماؤهم، حفظا لكرامتهم أمام آلة الهدم والتهجير الصهيونية.

رغم الهجمة المسعورة التي يشنها المستوطنون على جميع الفلسطينيين في الأرض المحتلة، وشراسة اجراءاتهم في السجون وخارجها، يستمر المقدسيون في تصديهم للعدو لأنهم على يقين بأن "القدس، جوهر الصراع الكوني اليوم، تحدد ملامح المعركة الفاصلة بين عباد الله حملة راية الوحي وقيم الوحدة من جهة.. والمتطلعين الى وجه الله الساعين إليه، وبين المتمردين على الله الذين أقاموا في الأرض أبشع نموذج حضاري في تاريخ الإنسانية" (الشهيد فتحي الشقاقي).

رابط مختصرhttps://alqudsnews.net/p/210275

اقرأ أيضا