"رائد" طفل فلسطيني ذو أربعة أعوام يقيم في بيت جده "الجد الثمانيني اللاجىء من إحدى قرى الجليل الأعلى "الممسوحة" عن خريطة فلسطين التاريخية الى قرية أخرى جاورتها مستعمرة صهيونية بنيت على التلة المقابلة". إستيقظ رائد مذعوراً على أصوات صفارات الإنذار التي دوَّت دون توقف عقب إطلاق دفعة من صواريخ المقاومة اللبنانية بإتجاه المستعمرة المزعومة، حيث تتواجد مراكز عسكرية ومستودعات أسلحة وذخيرة تابعة لجيش العدو. وبالمقابل فقد انطلقت الدفاعات الجوية "الإسرائيلية" وتساقطت شظاياها في مناطق عربية مختلفة. ركض رائد الى حضن أمه مرعوباً وهو يصرخ: "عم يضربونا بالنووي!!!".
إختنقت ضحكة "صفية" لظرافة وبراءة رائد مع كلمات التهدئة التي حاولت بها التخفيف عن أطفالها الأربعة من هول الرعب الذي يصيبهم في هكذا أوقات، فاتخذت القرار المؤجل بالذهاب الى بيت أهلها الواقع في الجليل الأوسط، وهو بيت حديث البناء يحتوي على ملجأ محصن يمكن الإحتماء بداخله عند إنطلاق صفارات الإنذار، الى حين عودة "الهدوء" لبلدتهم.
والجدير بالذكر هنا أن الأبنية والبيوت في غالبية البلدات والقرى العربية تصنف كبناء قديم (قبل دخول قانون الملاجىء حيز التنفيذ)، أي منذ عهد النكبة، وقد تمت إضافة طوابق للبناء الأساسي لإستيعاب التوسع السكاني الفلسطيني ضمن العائلة الواحدة ولعدة أسباب أهمها الحفاظ على لمّ الشمل والبقاء ضمن البيئة المجتمعية الفلسطينية الموحدة تمسكاً بالهوية الوطنية والوجود في الأرض. وبالتالي فإن هذه البيوت غير مزودة بالملاجىء للإستخدام في حالات الحروب والطوارىء على عكس البلدات والمدن "الإسرائيلية" المقامة على أراضينا المغتصبة.
إضافة الى أن دولة الإحتلال لا تبني أية ملاجىء عامة في البلدات والقرى الفلسطينية، أي بشكل عام في أماكن التواجد العربي وعلى مقربة من الحدود الشمالية مع لبنان بحجة أنها بنيت بدون تراخيص وفي أماكن تفتقد الى خرائط هيكلية. وهو أمر يندرج ضمن سياسة التهميش للعرب وحرمانهم من أبسط الحقوق وهو الشعور بالأمان إسوةً بالمحتل "الصهيوني" الذي يتربع في المرتبة الأولى بدولة الإحتلال.
وقد حدد قانون "الدفاع المدني الإسرائيلي" لعام 1951 إلزامية إنشاء الملاجىء في جميع "المدن والقرى الإسرائيلية" بأنواعها الثلاث: أولاً: "مماد" وهي غرفة محصنة تستخدم كملجأ في الشقة الخاصة الواحدة؛ ثانياً: "مماك" وهو ملجأ جماعي يوجد في المباني الخاصة مثل العمارات السكنية لإستخدام السكان؛ ثالثاً: "ميكلات" وهو ملجأ جماعي تابع للبلديات يتواجد في الشارع العام خارج المباني وقد يكون تحت الأرض. تحتوي هذه الملاجىء على خدمات الإنترنت أي "الواي فاي"، والحمامات والمطابخ وأنظمة تنقية الهواء.
بعد توسع رقعة الحرب على جبهات متعددة، وتكثيف الرشقات الصاروخية على العمق "الإسرائيلي"، كشفت معطيات محلية عن عدم جهوزية ما نسبته 50% من الملاجىء لحالات الطوارىء القصوى، ناهيك عن أن الغرف المحصنة في المنازل والشقق السكنية (في حال وجدت) لم توفر الحماية التامة لقاطنيها.
بالعودة الى قصتنا، ومع إشتداد وتيرة القصف، فقد ذهبت صفية بأطفالها الأربعة الى بيت أهلها، بينما رفض زوجها "ناجي" مغادرة الدار. لقد كان قراره صائباً بتأمين زوجته وأطفاله بإبعادهم عن منطقة الخطر المباشر، بينما فشلت كل محاولات صفية لإقناعه بالذهاب معهم الى برّ أمان مؤقت يعودون بعده سوياً الى بيتهم. إلا أن ناجي إستحضر نكبة 1948 التي دفعت بجده مرغماً للجوء الى عكا بعد هجوم العصابات اليهودية عليهم وسفك دماء الفلسطينيين. فعاش ما تبقى من عمره متمسكاً بأمل العودة الى حقل البطيخ ورحل عن هذه الدنيا دون أن يراه.
وقف ناجي وقال لصفية: "بديش أصير لاجئ، أنا باقي هون ولو نزل البيت فوق راسي، بنزلش على ملجأ بستشهد ببيتي وعلى أرضي.. سويتنا بسوية أهل غزة".
تعددت أسباب ودوافع صمود الفلسطينيين فوق تراب فلسطين المحتلة، وأبرزت للعالم قدرة هذا الشعب على التصدي والتحدي ومواجهة عوامل الإنهيار والإقتلاع من الجذور وشتى محاولات تذويب الهوية والقضية التي يمارسها الإحتلال الصهيوني منذ أربعينيات القرن الماضي حتى فاق الظلم والبطش كل ما طال شعوب الأرض في التاريخ الحديث والمعاصر. وتبقى أرض فلسطين وأشجار الزيتون، ودار الجد والأب الملجأ الأول والملاذ الأخير للفلسطيني أينما تواجد على الخارطة.
*الولايات المتحدة الأميركية