راغدة عسيران
هل هي نكبة جديدة أم بداية معركة التحرير؟ هل هي معركة من أجل تذكير العالم بأن الشعب الفلسطيني ينتظر حلا لقضيته أو من أجل "تحريك" القضية والتوصل الى تسوية "عادلة" ؟
لا شك أن معركة "طوفان الأقصى" التي فجّرتها المقاومة الفلسطينية، لا سيما كتائب عزالدين القسام، في يوم 7 أكتوبر المجيد، تعدّ أكبر المعارك في تاريخ الصراع الفلسطيني – "الإسرائيلي". بعد عام من انطلاقتها، المعركة متواصلة في فلسطين، وتوسعت لتشمل بعض دول الإقليم، لبنان واليمن والعراق وإيران وسوريا والأردن، بأشكال مختلفة، من العمليات الفدائية الفردية الى الصواريخ والمسيّرات التي تضرب الكيان المتوحّش، من احتضان المقاومين، الى المواجهة الشاملة كما هو الآن بين المقاومة الإسلامية في لبنان وكيان العدو.
لكن، في المقابل، شنّ الكيان الصهيوني حربا تدميرية شاملة على قطاع غزة ومن ثم على جنوب لبنان والضاحية الجنوبية لبيروت، وارتكب المئات من المجازر ويواصل الى اليوم حرب الإبادة الجماعية بحق أهل القطاع، وخاصة في شماله. لم يترك تجمعا سكنيا ولا مركز إيواء ولا مستشفى إلا وقصفه ودمّره. لقد استشهد الى اليوم، وفقا لأرقام الجهات الرسمية في قطاع غزة، أكثر من 45 ألف مواطن، معظمهم من الأطفال والنساء والشيوخ، منهم أكثر من 17 ألف طفلا. ودفن المتوحّشون الصهاينة المئات من العائلات تحت الأنقاض ورمال غزة.
ومنذ عدة أسابيع، باشروا بعملية تهجير أهل شمال القطاع المستمرة الى الآن، من خلال التدمير الممنهج لكل مكونات الصمود وسياسة التجويع والتعطيش. وذلك الى جانب عملية التهجير وسرقة الأراضي والتهويد والتضييق على الفلسطينيين المستمرة في الضفة الغربية والقدس والنقب المحتل عام 1948، لا سيما وأن المستوطنين يعلنون اليوم بكل صراحة نيّاتهم المتعلقة بالتهجير وتوسيع مناطق استيطانهم.
حرب الإبادة الجماعية التي انتهجها الصهاينة تفوق بوحشيتها ودمارها المجازر المتنقلة التي ارتكبها الغزاة خلال 1947-1948، التي أفضت الى تهجير حوالي 750 ألف فلسطيني من أرضهم وديارهم، ليس بسبب نوايا الغزاة أو طبيعتهم الاستعمارية والعنصرية التي هي اليوم شبيهة بما كانت منذ بداية الاستيطان، بل بسبب التقنيات الجديدة التى يمتلكونها، المكرسة لقتل أكبر عدد ممكن من البشر وتدمير ممنهج لمقومات الحياة.
لقد وصف النائب محمد رعد، رئيس كتلة "الوفاء للمقاومة" في البرلمان اللبناني طبيعة الجيش الصهيوني، بشكل دقيق، قائلا: "هو جيش من الروبوتات المبرمجة عبر برامج ممكننة وموجهة أساساً نحو التدمير والقتل، بعيداً عمّا يُسمى في لغة الجيوش الاشتباك والتقاتل والالتفاف والخطة البديلة.... إنه عديد من الوحوش المُبرمجة هدفها الفعلي القتل وليس القتال والتدمير وليس خوض المعارك."
المعطيات التي تشير الى نكبة جديدة تتلخص أيضا بمواقف الدول الاستعمارية الغربية، على رأسها الولايات المتحدة وألمانيا، وبمواقف الدول العربية العاجزة أو المتآمرة على المقاومة وشعب المقاومة. كما مهّدت بريطانيا سابقا الطريق لارتكاب المجازر وسرقة الأرض وتهجير أهل البلاد، تشارك اليوم الولايات المتحدة وألمانيا بحرب الإبادة عبر السلاح والمال والسياسة والإعلام.
في الماضي، لم تتحرك الجيوش العربية إلا بعد الإعلان عن إقامة كيان العدو، أي بعد سرقة الأرض والتهجير، فقاتل من قاتل لكن سرعان ما تم التوقيع على اتفاقيات تكرّس الوجود الصهيوني في فلسطين. أما اليوم، فلم تتدخل الدول العربية لدعم الشعب الفلسطيني ومقاومته، بل أصغت جيدا الى إملاءات الولايات المتحدة، وحاصرت الشعب وشاركت في تجويعه. فاكتفت بالتصريحات الرنانة، التي اعتادت عليها منذ النكبة وضياع فلسطين، وقمعت شعوبها واعتقلت ولاحقت شرفاءها.
هل معركة "طوفان الأقصى" تسببت بنكبة جديدة أم هي بداية التحرير؟ رغم الإبادة الجماعية والتدمير الممنهج، لم يتمكن جيش العدو من تحقيق الأهداف التي وضعها في بداية عدوانه، أي استعادة أسراه والقضاء على المقاومة الفلسطينية، ولم يتمكن لاحقا، وفقا لأهدافه المتجددة، من القضاء على المقاومة الإسلامية في لبنان واكتساح القرى الجنوبية، رغم الضربات القاسية التي تلقتها المقاومة، في فلسطين وفي لبنان، مع اغتيال القيادات التاريخية، على رأسها قائد محور المقاومة، الشهيد سماحة السيد حسن نصر الله وأخوانه في قيادة حزب الله، والقادة الكبار في المقاومة الفلسطينية، الشهيد إسماعيل هنية ومؤخرا، "القائد الكبيـر يحيـى السـنوار، الـذي ارتبطﭣ باسمه أكبر معركـة خاضـها الشعب الفلسطيني علـى مدار نضالها الطويل، إنها معركة طوفـان الأقصـى بكل ما تحمله من معاني البطولة والتضحية والفداء" (القائد زياد النخالة، أمين عام حركة الجهاد الإسلامي في فلسطين)، وقبلهم، الشهيد الشجاع القائد محمد جابر "أبو شجاع" في مخيم نور شمس وأخوانه المجاهدين في الضفة الغربية.
في معركة التحرير، يرتقي الشهداء، القادة وغير القادة، اذ لا يمكن تحرير البلاد من الاستعمار والهمجية والتوحش المجنون، دون خوض المعارك وارتقاء الشهداء، وهم الشهداء على طريق القدس. رغم هذه الخسارة، لم تنكسر المقاومة وتواصل المعركة بعنفوان أكبر وبإرادة أصلب، حيث لا سبيل للاستسلام لهذا الوحش، وإن دعمته الكرة الأرضية كلها وساندته جيوش العالم، فالشعار لدى المقاومين، في كل مكان، هو "النصر أو الاستشهاد" والاستشهاد يعني النصر.
يؤكد قادة المقاومة أن المقاومة بخير وأن المقاومين مستعدون لمعركة طويلة، وقد تطول طالما يواصل العدو عدوانه الوحشي وطالما يدعمه الغرب الاستعماري، وطالما عجزت الدول العربية والإسلامية على الضغط لوقف المحارق الممتالية. وخلال العام الأول لهذه المعركة البطولية، تغيّرت أمور كثيرة لم يعد بالإمكان تجاهلها أو العودة الى ما قبلها، ما يشير الى أن معركة "طوفان الأقصى" هي بداية معركة التحرير، وليست نكبة جديدة.
أظهرت المعركة مدى توحش الكيان الاستيطاني الصهيوني، بل الفكرة الصهيونية بحد ذاتها، خاصة عندما يقتل ويدمّر من أجل بقاء دولة عنصرية يهودية تسعى الى الهيمنة على كافة دول الجوار، بحجة تاريخ مزوّر ونقاء العنصر اليهودي وتفوقه على شعوب العالم. فاكتشفت هذه الشعوب مظلومية الشعب الفلسطيني الذي يناضل من أجل حقوقه كافة، وساندت طموحاته النبيلة، "فلسطين من البحر الى النهر"، ولم تعد تخشى الابتزاز الصهيوني-الغربي المتمثل بتهمة "معاداة السامية"، بل أصبحت هذه التهمة مدعاة للسخرية لدى جمهور واسع في الغرب والشرق.
منذ يوم 7 أكتوبر المجيد، حيث وجّهت المقاومة الفلسطينية ضربة شديدة لكيان العدو وأفقدته توازنه المعنوي والمادي، أثبت العدوان الهمجي على الشعب الفلسطيني أن العدو غارق في تناقضات عديدة، ولولا الدعم الغربي، لما استطاع لملمة صفوفه ومواصلة عدوانه خلال عام كامل. فهو "بيت العنكبوت"، كما وصفه الشهيد السيد حسن نصر الله، ويستمر في حربه لتعطيل التناقضات والخلافات الداخلية وأزماته الاقتصادية والسياسية. أدرك العدو أن هذه المعركة مختلفة عن المعارك السابقة لأنها تهدّد وجوده، رغم قدراته الحربية، وكلما صعّد توحّشه على البشر، كلما ترسّخت لدى المقاومة والشعوب المساندة لها ضرورة وحتمية زواله، لإنقاذ البشرية.
بعد أن خلعت الدول الغربية ثوب حقوق الانسان والحرية واستبداله بثوب الوحشية المطلقة وكراهية العرب والمسلمين خلال هذه المعركة، اكتشفت شعوب العالم أكاذيب الشعارات التي بنى عليها الغرب "تفوقه" المعنوي، والتي من أجلها حارب الشعوب ودمّر الحضارات والثقافات غير الغربية. تفتّحت أذهان الأجيال الشابة في العالم على إعادة قراءة التاريخ والحاضر، والتخلي عن السرديات الصهيونية والغربية التي سادت لأكثر من قرن من الزمن. رغم الإعلام المسيطر عليه من قبل الصهاينة والمال، واجه الإعلاميون الأحرار موجات الابتزاز والكذب المتتالية، ليس من أجل فلسطين والشعب الفلسطيني الضحية فحسب، بل من أجل مجتمعاتهم وسلامتها وانسانيتها.
اندلعت معركة طوفان الأقصى من أجل استعادة حقوق الشعب الفلسطيني، في أرضه ومقدساته وهويته وحريته، ولن تستسلم المقاومة أمام الظلم والهمجية والوحشية السائدة اليوم في العالم، ولن تتوقف المعركة إلا بعد انهيار كيان العدو. فالعدو الصهيو-أميركي- الغربي لن يوقف عدوانه الهمجي إلا عندما يشعر بخساراته البشرية الجسيمة (القتلى والجرحى والهاربين من الكيان سعيا وراء الأمان)، والاقتصادية، وتصدع مجتمعه، ونبذه في العالم. طالما هو مستمر في الإبادة والتهجير والتوحش، قد يتغيّر الوضع في المنطقة لصالح المقاومة، بعد صحوة شعوب الأمة وتجرئها على تنظيم نفسها ومواجهة حكامها المنغمسين في حرب الإبادة، ومواجهة المصالح الأميركية الغربية في بلادها، وانخراطها في المعركة. الى متى ستتحمل الشعوب المشاهد المروعة التي تصل من قطاع غزة ؟
لن يوافق كيان العدو على أي تسوية مع الشعب الفلسطيني ومقاومته إلا إذا استسلمت لهيمنته، وهذا مستحيل. لقد تبنّت المقاومة في فلسطين ولبنان حرب الاستنزاف، ما لم يتحمله العدو لفترة طويلة. تسعى الولايات المتحدة وبعض العواصم الغربية لإيجاد صيغ تسوية تمنح العدو الطمأنينة على مستقبله، وبحجة المحافظة على أرواح الفلسطينيين، تقترح بعض العواصم العربية المطبعة صيغ استسلام للعدو الصهيو- أمريكي.
مقابل هذا التآمر والالتفاف على مشروع تحرير فلسطين، على مجتمعات المقاومة أن تحمي نفسها من المحبطين الذين يشكّكون بقدرات المقاومة وإمكانية النصر، والتصدي الى الإعلام المعادي والمحبط الذي يتباكى على الخسائر البشرية والمادية دون الالتفات الى المقاومة الباسلة التي تخوض المعركة الأكبر والأوسع منذ احتلال فلسطين، كما عليها أن تتخلص من التبعية الفكرية والسياسية للغرب الاستعماري، التي تمنعها من التفكير بما يسمى اليوم التالي، أي الاستعداد ليوم التحرير وعودة اللاجئين الى فلسطين.