/مقالات/ عرض الخبر

عامٌ على سؤال: أينَ العرب؟

2024/10/23 الساعة 04:52 م

هبة دهيني

لا غروَ أنّ معركة الأحرار في السّابع من أكتوبر العام الماضي، أعادت تعريف مصطلحاتٍ كثيرة في معاجمِ العرب، ورَسَمت حدودًا جغرافيّةً لم يعهدها التّاريخُ على مدى حروبه من قبل، فالعُروبةُ لم تقتصر على اسمٍ عربيٍّ ولُغةٍ فصحى، ولا حتّى مؤازرةُ غزّة كانت مرتبطةً بتلاصقٍ حدوديّ، وحتّى التّاريخُ صارَ رهنًا لقافٍ تُطلق من فمِ يمنيّ وهو يكبّر في اليمنِ وبيده خِنجَر، ففي معجم المقاومة، كلّ الجهاتِ فلسطين، إذ باتت القُدس بوصلةَ مَن أدركَ صوابَ وُجهته، لمّا أرتنا صنعاء برجالها الأشدّاء، كيف أنّ الصّواريخَ مقياسٌ للجغرافيا، فكلّما اقتربَ السّلاح، قلَّتِ المسافة. 

imagesانتفاضى الشعب اليمني
 من عندِ حُفاة الأقدام، الّذين عضّوا على نواجذهم، وبأقدامهم داسوا الإمبرياليّة وأَوجُهَها الاستعماريّة في واشنطن، وكسروا بقبضاتهم صَلَف "إسرائيل"، وحوّلوا البحرَ الأحمرَ إلى جحيمٍ يلوّن البيت الأبيض، ودمّروا هشاشة "أمن الملاحة البحريّة"، وأروا العالمَ أجمع، كيف يستطيع يمنيٌّ حافٍ في صنعاء أن يدكَّ سفينةً صهيونيّةً حاولَ رُعاتها كسرَ قدرات اليمن على مدى أعوامٍ عِجاف، وكيف يتحوّل البأس إلى قوّةٍ تخطُّ تاريخَ نصرٍ يغطّي عنجهيّة أمريكا.

من هناك، نسمعُ ببيانٍ سريعٍ القافَ -الّتي أحببناها وخسئت دونها الأحرف- من فمِ يمنيٍّ لم تقدر قوى الهيمنة الأميركيّة على كَسرِ الشّهامةِ في منطِقه وعِلمه، وهو يُعلن يافا ٍمنطقةً غيرَ آمنة، وفي الوقت عَينه، يُطَوِّع الجغرافيا لأجل الأقصى، ويوصلُ الصّواريخ إلى قلبِ الكيان نيابةً عن كلّ المتخاذلينَ الملتصقينَ بغزّةَ التصاقًا حدوديًّا كمصرَ تمامًا، ليري العالمَ أجمع، بقوّاته المسلّحة، أنّ دُرّة الصناعات الأمريكيّة هي خُردةٌ تحت أقدام اليمنيّين، وأنّ أقصى ما يمتلك العدوّ من بوارجَ صهيونيّة في البحرَين الأحمر والعربيّ، هو غرقٌ مؤجّل له ولقدراته، فإنّ سُفن الصّهيونية لن تجري سوى كما تشاء رياح اليمن.

وهناكَ أيضًا من عرفوا كيفَ تُحسِن الجغرافيا اختيارَ أقرانِ شمال فلسطين، حينَ تكون العينُ في جنوب لبنان، وحينَ يصير رعب الشّمالِ حاضرًا بفتية الرّضوانِ الأشدّاء، وعندَما لا يجد المستوطنونَ سوى الملاجئ محاولةً للاختباء من صواريخ المقاومة، ولم يقتصر حزب الله على دكّ شمال البلاد، بل وباسم أمينه العام السيد المجاهد الشهيد حسن نصر الله، يدكّ المقاومونَ قلبَ الكيانِ في تلّ أبيب، ويزعزعون "أمن" المحتلّ ويُؤرقون حكومته الواهية.

عمليّاتٌ لم تتوقّف منذ الثّامن من تشرين الأوّل العام الماضي، مؤازرةً ومُعاضدةً لفلسطين بشعبِها ومقاومتها، وإيمانًا بالنّصر الإلهيّ المنتظَر، بوعودهم النّاجزة التي لم يخلفوها يومًا، إذ تأتي من الشمال مغبّة الحماقة "الإسرائيليّة" نارًا تضيء ليلَ الجليل، هؤلاء من عرفوا كيف تصيرُ الحدود وهمًا، وهم يشقّونَ براثن الاحتلال، ويقاتلونَ برجالهم حتّى الرّمق الأخير، ويستميتون في الدّفاعِ عن إخوانهم الممتشقينَ سلاحَهُم في غرب آسيا، فنرى جنود العدوّ بتعنّتهم ودماء أهل غزّة في رقبتهم وهُم يرزحونَ تحت أقدام رجال الله، ونبصر "الدّولة" العبريّةَ الّتي تربّت في أحضان الغربِ كطفلٍ مدلَّلٍ غذّته أمريكا بالمذابح الّتي أفرَغَها في القطاع والضفة، ويفرغها في لبنان اليوم، نراها كيانًا هشًّا بعنجهيّته وتكبّره وصَلَفه وتعنّتهِ وهو يبصرُ موتَه البطيء أمامه، ودبّابات الميركافا خاصّته وهي تذوبُ في نيرانِ حزب الله.

وإلى العراقِ وقد حلَّقَت مسيّراته نحو العدوّ وأوقَعَت جنودًا قتلى، وأصابت آخرين، وقد خلَّفَت بغدادُ بصيتِها الشّاعريّ، قصائدَ عزٍّ وثأرٍ في أرض فلسطين المحتلّة، وآزرت إخوتها في الدّم والسّلاح، وعاضدَت غزّةَ حتّى ذكَّرَت العالم مجدّدًا "بالعرب"، حشدٌ شعبيٌّ هدَّد ما تبقّى من جنودٍ إسرائيليين-أميركيّين، بمقاومتهم المستمرّة لخلايا الإرهاب والقواعد الأميركيّة في المنطَقة، هؤلاءِ الّذين تجلَّت العروبة في ألسِنَتهم، وقد تخطَّوا مئات الكيلومترات وصولًا لغزّة، فالمعجم نفسه في كافّة محور المقاومة، لا ركاكة في لغتهم، ولا خطأ في جغرافيّتهم، إذ كلّ الجهات فلسطين.

هذا وإن حصلَ وجئتَ يومًا إلى قلبِ "العربِ" وتذوَّقتَ الحضارة من جدرانِ دمشق، فستبصرُ في هذه المدينة الحزينة، وجهَ المقاومةِ الحَقّ، وملامحَ العروبة التي حاولوا تشويهها بعمليّات تجميلهمُ الزّائفة على مدى سنين طوال، وخطّطوا لمؤامرةٍ كونيّةٍ على أرضِ الشّام العزيزة، ليحاولوا تغيير جغرافيّتها وتاريخها وفقًا لألسنتهمُ العبريّة، وما العروبة إلّا استقاءٌ من زوايا سورية، التي أكّد الأمين العام لحزب الله السيد المجاهد الشهيد حسن نصر الله، أنّ سورية تقوم بواجبها، ولا يُطلب منها أكثر ممّا تفعله.

فشلوا في تحويل بوصلةِ هذه البلاد، الّتي سمَحت لصواريخ المقاومة أن تمرّ عبر أجوائها لتدكّ الكيان، في الوقت الذي سمحت فيه دول "عربيّة" أخرى لصواريخ الكيان أن تمرّ عبر أجوائها لتدكّ غزّة، وهذه سورية عامود خيمة المقاومة، والكلمةُ الثّابتة في وجه الصّهيونيّة حين زُعزِعَت كلماتُ الحكومات "العربيّة" وطبَّعَت بكلّ خيانةٍ مع "إسرائيل"، هذه سورية الّتي تذكّر العالم كلّ مرّةٍ أنّ الجولانَ عربيّ سوريّ، وأنّ سكّانه باقونَ بهُويّاتهم العربيّة، وأنّ المستوطنين هم نزلاء هذه البلادِ قسرًا، وصلاحيّة وجودهم مُنتهية إذ لم تبدأ بعدُ أصلًا، وأنّ كلّ الجيم في اللغةِ لنا، من الجليل إلى الجولان حتّى جنوب لبنان.

عامٌ على سؤال: أينَ العرب؟ وفي كلّ مرّةٍ يُطرَحُ فيه هذا السّؤال، لا يجدُ أحدٌ إجابةً عليه، بل نجدُ تساؤلاتٍ أخرى في المرمى نفسه، أن "كيف يبيع المرء عروبته؟"، وهذا تساؤلٌ يتسلّق إلى أعماق الفكرِ عند سماعِ "عربيٍّ" يبيع فلسطين. عامٌ كاملٌ على الإبادة الجماعيّة لقطاع غزّة، وعلى المذابح الإسرائيليّة اليوميّة، وعلى حمام الدم الصهيونيّ المُشَبَّع بالموادّ المُتأمركة في سبيلِ إبادة شعبٍ كامل، عامٌ كاملٌ على حجج واهية وادّعاءات يتمسك فيها "جيش" العدوّ حين يقصف مكانًا يدّعي تواجد المقاومة فيه فيقتل بذلك خمسينَ ألفَ مواطنٍ ويصيب عشرات الآلاف، عامٌ كاملٌ على ذكرياتٍ دُفنَت تحت الرّكام ولم تجد لحافًا يغطّي وحدة الأشلاء المتناثرة، وعامٌ يُختَمُ على مجهولي الهُويّة، الّذين حتَى وهُم موتى، لم يجدوا من يدفنهم، أو حتّى يتلو على مسامعهم آية.

أكاد أجزم بأنّ سؤال: أين العرب من كل ما يحدث في غزّة اليوم؟ باتَ شبهَ يوميٍّ في "صبحيّات" الجدّات ومقاهي الحارات، ولكنّ الجوابَ نفسه، قد وجدتُه في جباهِ المقاومينَ وعرقِ الجبين المناضل على الجبهات في محور المقاومة، العربُ هم فقط من عاضدوا فلسطين، هم حزب الله في لبنان وأنصار الله في اليمن والحشد الشعبي في العراق ووجه المقاومة الثّابت في سورية، العربُ هم من تألّموا كما تألّمت فلسطين، وعاشوا الفقدَ والشّهادة والنّضالَ المستمرّ كما فعلَ المقاومونَ في غزّة في الأنفاقِ وقد وصلوا لياليهم بنهاراتهم من أجل القتال، العربُ هم الممتشقونَ سلاحَهم في غرب آسيا، هم وجهُ المقاومةِ الأصيل والسّلاحُ الصّاحي في الأيادي السّمراء، هم الّذين داسوا على الإمبراليّة والاستعمارِ بأقدامهم ووجّهوا بندقيّتَهُم نحو المحتلّ لينالوا إحدى الحًسنَيَين، العروبة الحقّة، هي اللغة من فمِ هؤلاء، وهم ينطقونَ البيانات الّتي استهدفوا فيها نتنياهو في مطار كيانه، وضبّاط العدوّ في مقراتهم، وهم يعيدون ترتيب المصطلحات، إذ إنّها يافا المحتلّة، لا ما يُعرف "بتل أبيب".

نحن لأجل هؤلاء صرنا عرب، لأجل القاف من فم يمنيّ، واللبنانيّ الّذي استلَّ سلاحه وقد ودّعَ القمحَ من سلال الجدّات في الجنوب قبل الذّهاب إلى الجبهة، ولأجل اللون البنّيّ في بغداد والعروبةِ في سورية والمقاومينَ المستضعفين في كافّة أنحاء العالم، لأجل التّعَب في عينيّ سماحته، والعمامةِ الّتي احتوتنا جميعًا، والعباءة التي اختبأنا تحتها عند كل عاصفةٍ همجيّةٍ إسرائيليّة، لأجل الحُسنِ في ملامح وجهه العربيّة، لأجل كلّ ليلةٍ لم ينَم فيها وهو يرسم في هواجسه ملامحَ وجه الجنوب بالتزامن مع فلسطين، لأجل السيد الشهيد حسن نصر الله، ولأجل كلّ حاملٍ للواء الحقّ في غرب آسيا، لأجل هؤلاء، نحن عرب، وكلّ العروبةِ ركاكةٌ إن لم يُذكر هؤلاء المقاومونَ في مقدّمتها، فإنّهم فصاحةُ الكلمةِ ونارُ الثّأرِ وصدقُ السّلاح.

رابط مختصرhttps://alqudsnews.net/p/209835

اقرأ أيضا