وكالة القدس للأنباء - هبة دهيني
في أماكنَ غريبة نزَحنا إليها، وبين جدرانٍ بعيدةٍ عن صوتِ سماحته في جنوب لبنان وهو يرفع سبابته نحو السّماء ليقول: "أعدكم بالنّصر"، في كلّ غربتنا عن سهول القمحِ ومناجل الفلّاحينَ في البلاد، كنّا نتمسّكُ بانتمائنا حينَ نبصر عمامته بشموخٍ تدكُّ بصَمتها إمبرياليّةَ الغربِ المُتَصَهينة، مدركينَ أنّ البلادَ تُبصَرُ من عَينَينِ سَهِرَتا لتحرّرَ غربَ آسيا، والعالم. من هنا وصلَنا خبر شهادته، وقد كان سماحة السيد المجاهد حسن نصر الله، شمسَ الجنوب وسرَّ النّصرِ في تمّوز، واليوم، أطنانُ القذائفِ في الضّاحيةِ لم تنزع من نور النّصر شيئًا، إذ لم أرَ في حياتي غبارًا يحجبُ شعاعَ الشّمس.
وعدنا بالنّصر، وصدَق وعدَه، فالشّهادة بحدّ ذاتها انتصار، والضّعفُ لغةُ العاطلينَ عن الكفاح، وقد تربّينا بأنّ العملَ بالنّضالِ واجب، وأنّ المقاومة أسلوب حياةٍ طالما أنّ "إسرائيل" موجودة، وحلفاؤها في الداخل والخارج يتسكّعونَ في أسواق العَمالة، يبيعونَ أنفسهم الخسيسة ويشترونَ الهزيمةَ وهم في طغيانهم يعمهون، ومن ملامحه الجنوبيّة استقينا دروسَ تحويل الحزن إلى غضبٍ وقوّةٍ وثأر، وأنّ اليأس لغةُ عديمي الإرادة، وأنّ النّصرَ يولد من رحمِ القتال.
الفقدُ ثقيلٌ على قلوب أبناءٍ يُتّموا جميعًا دُفعةً واحدة، إذ كانَ الظّنّ بأنّ وجهًا ملائكيًّا روحانيًّا بهذا الجلال، خالدٌ بأكتافهِ ليحمل عنّا ثقلَ الموتِ ووجعَ الرّكامِ وهو يتجسّدُ في منازلنا وأحيائنا الفقيرة مُذ رحل، ولكنّا أدركنا اليوم أكثر، أنّ الخلودَ للأرواح، أمّا الأجسادُ ففانية، والمقاومةُ مسيرةٌ متراكمة، فكأنّي بعماد مغنيّة يقف عند الحدود اللبنانية-الفلسطينية يعزّينا ويقول "أرواحنا هي من تقاتل"، كأنّي به بروحه يعانقُ روح نَصرنا الّذي أفَلَ جسدًا، وخُلِّدَ روحًا، كأنّي بالحاج رضوان ينتزع عنّا غبارَ الضّعف، يعزّينا بأنّ الرّوحَ هي الأصل، وبأنّ روحَ سماحته باقية، والمقاومةُ جدوانا المستمرّة.
إنّ الشّهيدَ لم يطلب منّا يومًا أن نعزّيه بالبكاء، فالمحبَّ هو من حمل لواءَ محبوبه، وتمسّكَ بسلاحه وقلَّدَه في طريقِ الجهاد، وإن سماحة المجاهد الشهيد السيد حسن نصر الله، الّذي قاومَ على مدى عقودٍ قصَّرَ فيها عُمر "إسرائيل"، ولوّنَ فيها بالأحمر القاني نصرَ جنوب لبنان، وتحت عباءتهِ تلقّينا دروسًا لم نعهدها من قبل، هو الّذي كان يطلّ فيستفيض بالشّرح لئلّا يغيب عن وجهِ طفلٍ في الجنوب عداءُ "إسرائيل"، وكان يسترسلُ قبل الوصولِ للفكرة الأساس، لكي يُخرطنا معه في قلب المعركة، كان يحبّنا، وما زال، وكنّا نحبّه، وسنبقى، ولأنّا نحبّه، سنحوّل حزننا الضّعيفَ لغضبٍ ثائر، ولقوّةٍ تحقّق له صلاته في القدس، بروحه الّتي عشقناها في كلّ نزال، ولندركَ سبيلَهُ مُذ ذكَّرَنا أنّ القويّ هو من يفرض احترامه على العالم، فبشهادته نحن أقوى، أعند، أشجع وأكثر صلابة.
فإن ظنّ العدوّ أن القتلَ يردعُنا، وأنّ الغياب الجسديّ لسماحته يثنينا، فإنّه واللهِ قد شطّ في حماقته، ويحتاجُ صاروخًا يمنيًّا يدكّ "تلّ أبيبَهُ" مجدّدًا ليستيقظ من غفلته، وآخر يستهدف وجه نتنياهو في مطار كيانه، هذا العدوّ الأرعَن، وإن استفاضَ في أسلحته المُتأمرِكة، وفي استقبال الدّعم الغربيّ-العربيّ، وإن سرقَ كلّ ما في العالم من مادّةٍ تكفيه لسنواتٍ طوال، فإنّه لا يمتلكُ ذرّةً واحدةً من روحيّةِ أبطالنا في المعارك، ولا من إيماننا بأنّ الله في السّاحة، وبأنّ الطّريق طويلٌ والقوّة باقيةٌ ما بقيَ الله. فإنّا مدركون أنّ نصرَ تمّوزَ لم يأتِ من قوّةٍ جسديّة، ونحن نعرف أنّ "إسرائيل" قناعٌ يرتديه كلّ وجهٍ يعشقُ الخنوع والخضوع تحت أقدام الإمبرياليّةِ وانعكاساتها في منطقة "الشّرق الأوسط"، ونبصرُ العالمَ اليوم وهو يدعم بكلّ قواهُ و"عضللاته" العسكريّة، وبكلّ ما أوتيَ من غطرسةٍ وعنجهيّة، كيانَ العدوّ.
نحن غيرُ مغيًّبين عن كلّ هذا، ولكنّ مقاومتنا بُنِيَت بعقيدةٍ لا تشبههم -ونحن راضون بأنّنا لا نشبههم ولا يشبهوننا- هذه العقيدةُ الّتي تتجلّى بالقتالِ الرّوحيّ، والاستمراريّةِ الكفاحيّة، والنّصرِ الموعود، والقائدِ المفدّى، والسّبابةِ الّتي تدكّ بهيبتها واشنطن وما ساواها، نحنُ تربّينا على أصواتِ القادة واللون البنّيّ في حقول الجدّات، والرّوحِ الّتي تقاتل من دمشق وصنعاء وطهران والقدس وبغداد وجنوب لبنان، تربّينا على أنّ الثّقة بصواب الوُجهة، تعني صوابَ المسير، وأنّ الرّوحيّةَ هي من ستنتصر في نهاية المطاف، ألم أقُل في البداية، أنّ الجسدَ فانٍ والخلود من نصيبِ الرّوح؟
واليوم، نقول للعدوّ وأدواته المتصهينة، الّتي استغلّت فضاءات العالم الرّقميّ وساحات الهراء وأفرَغَت كلامها العبثيّ بالضّعف والوَهن و"انتصار" العدوّ الواهي، نقول لهم، بأنّنا اليوم أقوى من أيّ وقتٍ مضى، وبأنّ "حركةً يستشهد أمينها العام لن تضعف، ولن تنكسر"، وبأنّ قوّتنا تكمن في قوّة الله وحكمته في التّوقيتِ والمعركةِ والمكانِ والخبَر، وأنّ الأمينَ لَقِيَ مسكَ ختامِ التّعبِ بالشّهادة، وقد كان صادقَ الوعد، وسيسلّم رايتَهُ لمن سيمسك زمام المقاومةِ بكلّ حذافيرها، وبأنّنا لم نربط المقاومةَ يومًا ببقاء أجساد قادتنا، وإلّا فإنّ هذا الطريق قد انتهى من سنواتٍ عجاف، أمّا نحن، فإنّا نربط استمرارية المقاومةِ وقوّتها بالله الباقي حين يفنى كلّ شيء، وحينَ نربط سبيلنا الحياتيّ هذا بالله، فإنّ النّصر قادم، بحقّ نور الشّمس في وجه الأمين، والقمحِ البنّيّ في سِلال الجنوبيّات، والشّيبةِ البيضاء على الوجهِ الحبيب، بحقّ العمامة والعباءة، وبحقّ الثّكالى واليتامى والأرامل، بحقّ الشّهادةِ ومن لَقيَها، بحقّ الدّموع الّتي ذُرفَت، والآهات الّتي كَسرت صَلَف "إسرائيل"، سنثأر، والثّأر سيكون بالنّصر، وليس بأيّ نصر، وإنّما.. بنصر الله الخالد!
*وكالة القدس للأنباء