راغدة عسيران
استقبلت باريس، ضمن الألعاب الأولمبية، فريق رياضي "إسرائيلي" يمثل الكيان الاستيطاني المجرم الذي يشنّ منذ أكتوبر الماضي، حرب إبادة جماعية ضد الشعب الفلسطيني في قطاع غزة، وحرب استئصال ممنهجة في الضفة الغربية وسائر مناطق فلسطين. رغم المطالبة الشعبية في فرنسا ودول أوروبية أخرى بعدم استقبال هؤلاء المجرمين في هذه الدورة، لم يتم الإصغاء الى أصواتهم ولم يتم اقصاء المحتلين، بحجة الشعار الكاذب والمضلل بأن اللقاء الرياضي الأولمبي ساحة "أخوة وسلام".
ليس من الغريب أن يتم استقبال المجرمين وممثليهم، الرياضيين والأكاديميين والفنانين وغيرهم من المستوطنين، في اللقاءات الدولية التي تجري في الدول الاستعمارية الغربية، لأن هذه اللقاءات معدّة أصلا لتكريس الاستعمار الغربي على بلدان العالم ونشر القيم الغربية الليبرالية المضللة، وتغييب الصراعات الفعلية التي تجري في الواقع بين الغرب الاستعماري وشعوب العالم.
بالنسبة للجنة الأولمبية المنظمة لما يسمى "الألعاب الأولمبية"، وللدولة المنظمة لهذه الدورة، لا قيمة للإبادة الجماعية التي يشنّها العدو والتي يشاهدها العالم كله بالصوت والصورة منذ عشرة أشهر. لقد قتلت الآلة الحربية الصهيو-أميركية أكثر من 300 رياضي فلسطيني في قطاع غزة خلال المذبحة الحالية. وبالنسبة للجنة الأولمبية والدول الاستعمارية الغربية، لا قيمة لاحتلال فلسطين وتشريد شعبها منذ ما يقارب ال80 سنة، ولا قيمة للرياضيين الذين يتم اعتقالهم وتعذيبهم في السجون الصهيونية، والرقص على أجسادهم الملفوفة بأكياس سوداء، كما حصل مع الأسير الرياضي معزز عبيات، من بيت لحم. المهم بالنسبة لهم رفع شعارات فارغة تتحدث عن حقوق الشعوب. إلا أن النفاق الاستعماري الغربي ظهر جليا عندما أُستبعِدت روسيا عن هذه الدورة الأولمبية وعن سابقتها في قطر، بسبب "احتلال أوكرانيا"، الدولة الأوروبية البيضاء.
لكن، رغم التواطؤ الواضح للمؤسسات الدولية مع الحرب الإرهابية الصهيو-أميركية الحالية على الشعب الفلسطيني والشعوب العربية والإسلامية المتعاطفة معه والمساندة له، ورغم المشاركة الفعالة للغرب الاستعماري الأوروبي في حرب الإبادة في غزة وإنكار حق الشعب الفلسطيني بأرضه أو حتى بجزء منها، تغيّر المشهد الشعبي الغربي حيال القضية الفلسطينية، كما يمكن استخلاصه من خلال المقارنة بين "أولمبياد ميونيخ" عام 1972 و"أولمبياد باريس" عام 2024.
في شهر أيلول/سبتمبر 1972، أي بعد 5 سنوات على استكمال احتلال فلسطين وأراض عربية (الجولان وسيناء)، وسنتين على مجازر أيلول في الأردن (1970)، شنّت المقاومة الفلسطينية عملية جريئة ضد لاعبي المنتخب الصهيوني خلال "أولمبياد ميونيخ" للمطالبة بالإفراج عن 236 معتقلا في السجون الصهيونية ولتذكير العالم بأن الشعب الفلسطيني، رغم الاحتلال والمجازر والاغتيالات التي نفذها الموساد (في لبنان، وكان آخرها اغتيال المفكر والروائي الشهيد غسان كنفاني)، ما زال يطالب بحقه بأرضه ويسعى الى تحريرها. رفض الصهاينة التجاوب مع الفدائيين ونفذوا كمينا، بالاتفاق مع ألمانيا، للقضاء عليهم. لقد استشهد في العملية 5 فدائيين وقتل الرهائن الصهاينة كلهم.
تبعت هذه العملية الفدائية في ميونيخ موجة اغتيالات واسعة نفذها الموساد الصهيوني ضد الفلسطينيين في انحاء العالم، معتبرا أنه يردّ على قتل اللاعبين "الإسرائيليين"، في حين كانت العملية الفدائية ردا على موجة الاغتيالات والمجازر التي كان العدو الصهيوني (وأعوانه) قد نفذها سابقا بحق الشعب الفلسطيني، وبسبب الاحتلال للأراضي الفلسطينية واعتقال وتعذيب المئات من المناضلين الفلسطينيين والعرب. فالمطالبة بتحرير الأسرى الفلسطينيين والعرب من سجون بني صهيون تبقى حاضرة منذ احتلال فلسطين، بسبب وحشية العدو في تعامله معهم وإنكاره لكل القوانين الدولية والإنسانية والأخلاقية.
في ذلك الحين، وكما حصل في الأشهر الأولى من معركة طوفان الأقصى، لم يولّ الإعلام الغربي (الذي كان يمثّل الرأي العام في ذلك الوقت) الاعتبار لما سبق العملية الفدائية في ميونيخ، وظلّ متمسكا بالرواية الصهيونية التي روّجت بأن الكيان الصهيوني يتعرّض لموجة إرهابية يقودها الشعب الفلسطيني ومنظمة التحرير الفلسطينية. لم تخرج الجماهير في الدول الغربية إلا لدعم الكيان الاستيطاني "المهدّد" كونه يهودي ويمثّل القيم الغربية "المتنوّرة".
رغم الأقلية الغربية المتنورة والداعمة لنضالات شعوب العالم، ورغم مساهمة الجاليات العربية، وأهمها الجزائرية، من أجل تغيير الصورة والترويج للحقيقة الفلسطينية، بقي الإعلام الغربي والرأي العام التابع له صهيونيا يدافع عن همجية الكيان وإرهابه وعنصريته، كما هو حال اليوم في الكونغرس الأميركي. لم يكن يناصر الشعب الفلسطيني وحركته التحررية، في ذلك الوقت، إلا أقلية مرتبطة بالأحزاب اليسارية التي آمنت بتحرير كامل فلسطين، من بحرها الى نهرها، وشارك بعض أعضائها في حرب التحرير في صفوف التنظيمات الفلسطينية في لبنان. بشكل عام، لم يتغيّر المشهد الشعبي المنتصر لفلسطين في الدول الغربية إلا خلال الانتفاضة (1987)، بسبب أولا المقاومة الشعبية الفلسطينية التي أبهرت العالم بشجاعتها، ثم تراكم العمل الإعلامي لهذه الأقلية المتنورة، أضافة الى الجهد العربي، الرسمي والشعبي، في دعم القضية الفلسطينية.
أما اليوم، خلال "أولمبياد باريس"، فالمشهد الشعبي الغربي مختلف تماما عن مشهد عام 1972، بسبب المقاومة الفلسطينية أولا، والفظائع التي يرتكبها الكيان الصهيوني، وتراكم الوعي الشعبي حول هذا الكيان الدموي. خلال السنوات الماضية، وفي المباريات المختلفة، توالى الاحتجاج على مشاركة لاعبي الكيان الاستيطاني فيها. فلم تمر مباراة إلا وكانت أخبار رفض لاعب أو فريق من اللاعبين المبارزة مع الصهاينة، وذلك رغم إقصائهم من اللعب من قبل اللجان الدولية المختصة. فلم يكترثوا لهذا الإقصاء طالما وقفوا مع فلسطين ومقاومتها. فمهّدوا بمواقفهم الإنسانية لكشف تواطؤ المنظمات الدولية مع كيان العدو.
قبل أسابيع، طالبت الجماهير الشعبية في الدول الأوروبية، وفي الولايات المتحدة، منع مشاركة الكيان الصهيوني في "أولمبياد باريس" بسبب حرب الإبادة التي ينفذها ضد الشعب الفلسطيني في غزة. لقد تظاهرت أمام مقر اللجنة الأولمبية مرارا وطالبت بإقصاء الكيان الإرهابي من المشاركة. لم تتجاوب اللجنة الأولمبية مع هذه المطالب، فأثبتت مرة أخرى انصياعها للدول الاستعمارية، كسائر المؤسسات الدولية.
رغم عدم التجاوب مع المطالب الشعبية، واستمرار المستوى الرسمي في الدول الغربية في دعمه للكيان الإرهابي، ومواصلة مدّه بالسلاح (ألمانيا، بريطانيا) والمرتزقة (فرنسا)، يمكن الملاحظة أن كراهية الصهاينة و"إسرائيل" في تصاعد مستمر، بعد افتضاح الأكذوبة الصهيونية المنتشرة منذ بدايتها : علاقة الصهيونية بالإستعمار الغربي، التمييز بين اليهودية والصهيونية، عنصرية الصهاينة ووحشيتهم، حق الشعب الفلسطيني في أرضه، الشعب الفلسطيني يدافع عن حقه في حياة كريمة في وطنه المسلوب، إنسانية أهل فلسطين في غزة وسائر فلسطين وشجاعة مقاوميها.
لم تعد "إسرائيل" بنظر الأجيال الصاعدة في الدول الغربية تمثل القيم التي يؤمنون بها، والتي تختلف عن قيم الأجيال السابقة التي استعمرت أوطانا وقتلت بشرا وأبادت شعوبا بسبب لون بشرتها ولغتها وقيمها. لقد ربطت هذه الأجيال الصاعدة بين جشع الرأسمالية التي تتحكم بمصيرهم وبين سلب حقوق الشعوب من خلال مستوطنات وحشية كالكيان الصهيوني.