وكالة القدس للأنباء - ملاك الأموي
صدر للأديب المقدسي محمود شقير عن "دار طباق للنشر والتوزيع" الفلسطينية، مجموعة قصصية جديدة بعنوان "نوافذ للبوح والحنين"، تطرق فيها إلى عشرات المواضيع المهمة التي يعيشها الشعب الفلسطيني، وهي تقع في 230 صفحة من القطع المتوسط، وصمم غلافها الفنان أيمن حرب، ويعتبر شقير من رواد القصة القصيرة جداً في العالم العربي، وكتب أكثر من صنف أدبي منها: القصة والرواية للصغار وللكبار، واليوميات، والمسرحيات، والمسلسلات التلفزيونية، بالإضافة إلى كتابة المقالات السياسية والأدبية والنقدية.
عن "نوافذ للبوح والحنين"، تحدث شقير لـ"وكالة القدس للأنباء"، قائلاً: إنه "البوح بلحظات الحب الشاردة في ثنايا الزمن المنقضي، ومحاولة استرجاعها عبر الكتابة، وكذلك البوح بما يؤرق الكائن الفرد، ويؤرق الجماعة في فلسطين من عدم الشعور بالأمن والأمان، ومن عدم الاطمئنان، والحنين إلى تلك اللحظات، لحظات الحب المسترجعة عبر الكتابة، وكذلك الحنين إلى عكس ما يسبب الأرق وعدم الاطمئنان: الحنين إلى الأمن، وإلى مستقبل تتحقق فيه الأحلام والرغبات، وتتحقق الحرية التي بتحقّقها تُصان الكرامة الوطنية للمواطنين، ونظفر بكثير مما ينقصنا الآن".
وأشار إلى أن "للنوافذ حضوراً مؤكداً في ذاكرتي، وفي مجمل تفاصيل حياتي، ولها حضور ملموس في ثقافتنا الشعبية وفي الأغاني والنصوص الأدبية، لذلك يغدو حضورها في النص الأدبي انعكاسًا لحضورها في الواقع"، مؤكداً أنه "بوجودها يزدهي البيت بحضوره في المكان، ومن خلالها يتم التواصل مع الخارج، وهي المتنفّس الأساس للبيت ولأهل البيت؛ عبرها يجري تمرير نسائم الربيع ويجري التخفّف من حرارة الصيف، وهي تتميز عن الأبواب بالوظائف التي تضطلع بها في مجرى الحياة اليومية، فالأبواب في الوضع العادي تتيح لأفراد البيت الخروج في الصباح إلى أماكن شتى، إلى المدارس والجامعات وإلى الورش والمصانع والمتاجر، والعودة بعد الظهيرة وفي المساء إلى البيت. وفي الوضع غير العادي، كما هي حالنا نحن الفلسطينيين تحت الاحتلال تصبح الأبواب سببًا في اقتحام البيوت حين يأتي عساكر المحتلين لاعتقال أحد أفراد الأسرة لسبب ما"، مضيفاً أن"النوافذ لها وظائف مختلفة ذكرتها آنفًا، وهي تبدو مقارنة بوظائف الأبواب مترفّعة عن كل سبب مزعج أو مربك أو جالب للآلام، يُستثنى من ذلك أنها قد يجري استغلالها من اللصوص، فتصبح أو تمسي سببًا لاقتحام البيت، ما يدفع ربّ الأسرة إلى تدارك هذا الأمر بتركيب حمايات من حديد، فتصبح منيعة على اللصوص".
تنوع الفصول بين الساخرة والجادة
وعلى صعيد الأسلوب، قال: "قدمت للقرّاء وللقارئات كتابًا قصصيًّا تترابط قصصه في ما بينها وتنفصل في الوقت ذاته، وتتنوع فصوله ما بين قصص ساخرة وأخرى جادّة، وثمة استفادة من السرد الروائي وتطويع للقصة القصيرة لكي تنتظم في إطار موحد، وتتخلى عن جزء من استقلالها في استجابة منها لشروط السرد الروائي، الذي يجعل الكتاب القصصي مختلفًا بعض الشيء عن المجموعة القصصية، وهو الأمر الذي أشار إليه على نحو عميق الناقد أ. د. محمد عبيد الله في المقدمة التي تصدرت صفحات الكتاب"، أما على صعيد المضمون، "فثمة استفادة إلى الحدّ الأقصى من إمكانات السخرية التي لها حضور ملموس في تراثنا الشعبي وفي نماذج ممتعة من الأدب العربي؛ قديمه وحديثه، وذلك لتعرية ما في واقعنا السياسي والاجتماعي على الصعيد الفلسطيني من انقسام وتراجع وتخلّف وإحباط، وعلى الصعيد العربي من انهيار وتبعيّة وانحطاط، ثمة كذلك سخرية من بعض الظواهر السلبية على الصعيد العالمي، وخصوصًا الانحياز السافر ضدّ التطلعات المشروعة للشعب الفلسطيني في الحرية والعودة وتقرير المصير، والكيل بمكيالين لصالح المحتلين الصهاينة"، مشيراً إلى أنه "باختصار؛ ثمّة في هذا الكتاب أدب سياسي ساخر معني بتوفير المتعة للقارئ وبتوصيل الرسالة التي جاء هذا الأدب تعبيرًا عنها في الأساس".
ارتباط التنوع بالسيرة الذاتية
وعن سؤاله حول تعدد أساليبه الإبداعية في أصناف أعماله الأدبية، قال الكاتب شقير لوكالتنا: "أظن أن لهذا التنوع علاقة بسيرة حياتي، وبما تعرضت له من عدم استقرار في المكان، ومن اعتقال على أيدي المحتلين الصهاينة، وإبعاد إلى خارج فلسطين، والعيش في المنفى سنوات غير قليلة في بيروت وعمّان وبراغ، له علاقة كذلك بمدى توفر المنابر التي كانت خيرَ محفّزٍ لي على الكتابة في القصة القصيرة، والرواية والمسرحية والمسلسل التلفزيوني، وكتابة المقالة السياسية والأدبية، والانخراط في العمل الصحافي بين الحين والآخر، علاوة على الكتابة للأطفال..
وعلى سبيل المثال لا الحصر؛ حينما ظهرت مجلة "الأفق الجديد"؛ مجلة الأدب والثقافة والفكر، أوائل ستينيات القرن العشرين، فقد كانت سببًا في حماستي لكتابة القصة القصيرة، وحين كانت الساحة الثقافية في الأردن تغلي بالحماسة للمسلسلات التلفزيونية، وجدتني أتأثر بتلك الأجواء وأنصرف إلى كتابة مسلسلات تلفزيونية ابتدأتها بمسلسل "عبد الرحمن الكواكبي" الذي أخرجه الفنان صلاح أبو هنود عام 1980"، موضحاً أنه "حين انتبهت إلى منشورات "دار الفتى العربي" في بيروت، وإلى مجلة "أسامة" السورية التي كان يرئس تحريرها الأديب السوري، زكريا تامر، فقد اجتذبتني تلك المنشورات وهذه المجلة إلى الكتابة للأطفال".
ضرورة الكتابة للأطفال
ولفت شقير إلى أنه "أصدرت حتى الآن ما يقرب من خمسين كتابًا للفتيات والفتيان من مختلف الفئات العمرية، تراوحت بين قصص ومجموعات قصصيّة وروايات، ويمكن القول إنني منخرط في الكتابة للأطفال، بما يساوي انخراطي في الكتابة للكبار، لأنني على قناعة بأن الكتابة للأطفال ضرورية مثل ضرورة الماء والهواء، ولست أقصد هنا الوعظ والإرشاد ونزعة الأستذة التي سادت بعض الوقت في الكتابات الفلسطينية للأطفال، ما أقصده احترام شخصيّة الطفل، وتقديم أدب ناضج مستوفٍ للشروط الفنية المطلوب توافرها في أدب الأطفال، ما يسهم في ترقية ذائقة الطفل الجمالية، وما يسهم في توسيع مداركه، وتنمية وعيه على القضايا الخاصة بالطفولة، وعلى القضايا الوطنية والاجتماعية، إنما بالقدر الذي لا يتعالى على قدرات الطفل، ولا يفرض عليه ما لا قبل له باستيعابه".
السخرية سلاح مهم
وفي سياق مختلف، أكد أن "الكتابة الساخرة ليست سهلة أبدًا، وهي بحاجة إلى قدرات خاصّة، وهي سلاح مهم في أيدي المظلومين ضد المتغطرسين السفلة من محتلين صهاينة ومشايعيهم الإمبرياليين، ومن أنظمة حكم جائرة، وقد وجدت في الكتابة الساخرة، وأنا أنجز مجموعتين قصصيتين في هذا السياق، خير تعبير عن بؤس أحوالنا هنا في فلسطين، في ظل احتلال عنصري، تغذّيه بعض مظاهر تخلّفنا ورداءة أدائنا اليومي على غير صعيد، ثم رحت أفكر في سنوات سابقة بتوسيع النظرة الساخرة بحيث لا تظل مقتصرة على معاناتنا من الاحتلال ومن تخلفنا، بل تمتد لتشمل انحطاط وضعنا العربي الذي ينذر بتقسيم الأوطان وبمزيد من التطاول على كرامة الإنسان، وبحيث يصبح شعار: عيش، حرية، عدالة اجتماعية، الذي آمنت به الجماهير العربية وقدّمت من أجله التضحيات، مجرد شعار بلا جدوى إلى أمد قد يطول، غير أنني لم أعثر على الشكل الفني الملائم للتعبير الساخر عن المرحلة، وبقيت أبحث عن فرصة للكتابة الساخرة بضع سنوات، وكنت ابتدعت في التجربة السابقة، التي ولدت منها "صورة شاكيرا" و"ابنة خالتي كوندوليزا" شخصية "عمّي الكبير"، الوطني في أيام "الوساع"، المتردّد، الجبان في أزمنة القمع والاضطهاد، الذي يلتقي في الحي المقدسي المحاصَر عددًا من نجوم العولمة في حقول الغناء والسياسة وكرة القدم وعرض الأزياء، من أمثال: شاكيرا، رونالدو، رامسفيلد، نعومي كامبل وآخرين، الذين جعلتُهم يزورون الحي للتعرف إلى همومه، ولفضح الواقع الذي نحياه.
وبيّن أنه "كان لا بد من تجاوز شخصية عمي الكبير، ولذلك بقيت أبحث عن شخصية قادرة على التعبير عن الأوضاع التي يغيب فيها العقل، وتتسيّد غرائز القتل والإقصاء، التي ابتليت بها مجتمعاتنا، ونبتت بين ظهرانينا مثل الفطر السام. وهي بالتأكيد، لم تأتنا من فراغ، بل هي النتاج المرّ لأنظمة القمع والاستبداد التي حرمت الجماهير، لسنوات طويلة، من ممارسة السياسة، ومن التعبير الحر عن همومها، فكانت النتيجة هذه التنظيمات المسلحة المشبوهة، المسيّرة لخدمة الأسياد، التي تتستر بالدين وتمارس العسف والذبح والإرهاب بأبشع صوره ضد الناس.
وتابع شقير، لذلك، ومن باب الرغبة في التعبير الساخر عن بعض تجلّيات المرحلة، فقد تابعت لبعض الوقت شخص "الحشّاش" الذي تُروى عنه النكات والنوادر في مواقع التواصل الاجتماعي وفي المواقع الألكترونية، كما لو أنه التجسيد الأوفى لحالة غياب العقل التي يراد لها أن تسود في مجتمعاتنا ولو إلى حين. وبعد تأمل مديد، لم أتمكن من تطويع شخصية الحشاش للغاية المرتجاة، ثم انتبهت فجأة إلى شخصية "رهوان" أحد أبطال روايتي "ظلال العائلة"، وهو شابٌّ عبثي متهتّك، فوجدت أنه بالعلاقة بينه وبين محمد الأصغر أحد أبناء عائلة رهوان، يمكن أن ينهض بالدور الساخر من دون صعوبة أو تعقيد، وقد تحقق ذلك في كتابي القصصي "نوافذ للبوح والحنين".
ثم إنني عدت إلى ذلك السرد الساخر بضمير الجمع "نحن" الذي استخدمته قبل سنوات في كتابي القصصي "صمت النوافذ" واستثمرته من جديد في هذا الكتاب القصصي بالنظر إلى أن هذا النوع من السرد الساخر لم يُستهلك ولم يجر استخدامه إلا على نحو محدود".
جرح التشريد لم يغادرني..
وفي ختام حديثه لوكالةى القدس للأنباء، عبّر شقير عن حنينه، قائلاً إن "القدس تتجلى في كثير من كتبي، وتظهر معاناة الشعب الفلسطيني في الغالبية العظمى من قصصي ورواياتي، منذ شُرّدت من بيتنا مع أهلي وأنا طفل في السابعة من العمر، وجرح التشريد لم يغادرني، واستمرّ حتى يومنا هذا خوفي من فقدان البيت، والشعور الدائم بعدم الاستقرار ما دام هنالك احتلال وعدوان، وحين ابتدأت الكتابة نشرت مجلة "الأفق الجديد" قصتي الأولى التي حازت جدارة النشر بعد عدد غير قليل من المحاولات القصصية غير الناجحة، فقد كانت القصة عن تلك الليلة التي شُرّدت فيها من البيت، ثم توالت القصص والروايات والمسرحيات والنصوص وكتب السيرة وكذلك كتب الأطفال التي غالبًا ما كان للقدس فيها حضور ملموس، ولمعاناة الشعب الفلسطيني حضور أكيد".