أنجبت ممارسة المقاومة المسلحة على مدار السنوات الماضية، ثقافةً جديدةً لدى الأجيال المتلاحقة والناشئة في مجتمعنا الفلسطيني، ألا وهي ثقافة التقليد والاسترشاد واتباع لكل ما يتعلق بالمقاومة الفلسطينية من رموز ومفردات ولباس، وشكلت الحرب الأخيرة التي استطاعت فيها فصائل المقاومة إلحاق أكبر خسارة في صفوف جيش الاحتلال، ملهماً لأطفالنا وحلماً لهم بأن يصبحوا أمثال أولئك الرجال الذين كانوا يعتلون الدبابات والناقلات ويقتلون كل من جاء غازياً بداخلها.
ومن جانب آخر، خلفت هذه الحرب آثاراً نفسية صعبة على أطفالنا الذين يدفعون الفاتورة الأكبر في كل عدوان صهيوني جديد، وباتت ذكريات الحرب وأزيز الطائرات ودوي المدافع وسقوط الصواريخ تلاحقهم حتى في منامهم وأحلامهم، فكل هذه الظروف، جعلت الطفل يتخذ المقاوم قدوة له ومخلصاً من الاحتلال وما يخلفه من آلام مستمرة.
محاكاة ملاحم البطولة، وصناعة اللباس العسكري الملثم، كانت أبرز سمتين طفتا على سطح المجتمع الفلسطيني في أوساط فئة الأطفال، حيث باتت ألعاب يهود وعرب، وأسر الجنود، وتحرير الأسرى، مظاهر دارجة في شوارع وحواري وأزقة قطاع غزة.
قدوة وطنية
وتؤكد المواطنة "أم ابراهيم المعصوابي" (49 عاماً) أن أطفالها تأثروا جداً بما دار في الحرب الصهيونية على غزة، وكيف استطاعت قوى المقاومة تلقين جنود الاحتلال درساً قاسياً.
وقالت المعصوابي "العمليات البطولية واختراق الحصون وحفر الأنفاق وإطلاق الصواريخ وأسر الجنود، كلها مشاهد باتت تسيطر على تفكير أطفالي، فهم يريدون تقليد هذا الأمر، وقد عبروا لي أكثر من مرة محبتهم الكبيرة للمقاومين ورغبتهم العارمة أن يكونوا مثلهم تماماً".
وأشارت إلى أن أحد أبنائها ويبلغ من العمر 8 سنوات، صنع لوجهه لثاماً، وبات يلبس لساعات طويلة محاولاً تقمص شخصية رجل مقاوم، لافتةً النظر إلى أن كافة الألعاب التي يفضلها ابنها عبارة عن كلاشنكوف وألعاب الحرب الصغيرة.
وأضافت أم إبراهيم باسمة: "بعد انتهاء الحرب، بدأ اطفالي ومعهم اصدقاء لهم من ذات الحي الذي نسكن فيه، يحاولون اختطاف صديقهم واعتقاله في المنطقة أسفل بئر المنزل، اقتداء بالمقاومين ومحبة منهم في المشاركة في عمليات أسر لجنود الاحتلال، كما هناك أيضاً من صنع المتاريس والحواجز من الرمال محاولة لصنع ميدان معركة".
وبالرغم من انتهاء الحرب الصهيونية على قطاع غزة، إلا أن أصوات القنابل والصواريخ الصهيونية وقذائفها ما زالت تتساقط على مخيلة الاطفال منتزعةً ضحكاتهم البريئة لتغرس مكانها صور الفزع والترقب وانتزاع الطفولة.
المواطن "هيثم نبهان" (44 عاماً) قال: إن" المتجول في شوارع غزة هذه الأيام، قد يقابل عشرات الصبية والأطفال الصغار يشكلون مجموعات مسلحة، وبحوزتهم قطع سلاح بلاستيكي يحاكي تماماً الأسلحة الحقيقية ومعارك جادة، خصوصا في ظل استغلالهم اوقات الإجازة المدرسية هذه الأيام ".
ولكنه أشار إلى أن ابنته البالغة من العمر 6 سنوات تعيش ظروفاً صعبةً بسبب شدة الحرب التي تعرضت لها غزة، موضحاً أنها حينما تسمع أصواتاً قوية في الشارع، تعتقد أنه قصف صهيوني جديد، وتنتابها حالة من الخوف الشديد من استهداف قريب للمنزل.
ونوه إلى أن هذه الابنة، كلما شاهدت أحد جرح لسبب ما، تعتقد ان ذلك ناتج عن صواريخ الاحتلال أو رصاصة من جندي صهيوني، مضيفاً: "كل هذه الخيالات نتجت بسبب ما عانته طفلتي خلال الحرب، لقد كانت أوضاعاً سيئة للغاية وقد شهدت النزوح والهروب وكنت مثل أي رجل بالغ أسفل هذا الكم الهائل من الصواريخ والقنابل التي القاها الاحتلال على غزة.
سلوكيات وشواهد
وانعكست آثار العدوان الصهيوني على سلوكيات الكثير من الأطفال في غزة، كما يرى المتخصص النفسي د. فضل أبو هين.
وقال أبو هين "الحرب حدث غير طبيعي للمجتمع وقد جاءت الحرب الأخيرة أشد من حيث الشراسة والمدة الزمنية الطويلة وكان حجم الاستهداف مهولاً ويشمل كل ما يتحرك على الأرض، وكان نصيب الأطفال من عمليات الاستهداف كبيراً فبعضهم استشهدوا داخل منازلهم والبعض منهم في المدارس أو على أسطح المنازل وبعضهم الآخر على شاطئ البحر".
وبيّن أن هذه الحرب أظهرت على السطح رموزاً وطنية كبيرة باتت تشكل قدوة للأطفال، حيث كان أولئك الرموز ينشرون الأخبار والأنباء السارة في مجتمعنا في الوقت الذي كان المجتمع أحوج لمن يرفع من معنوياته وهو الأمر الذي ساهم بشكل كبير في اعتبار تلك الشخصيات رموزاً محببة لدى المجتمع وخاصة الأطفال.
ولفت أبو هين النظر إلى أن الشواهد على أرض الواقع، تؤكد حب أطفالنا للمقاومة ولرجالاتها، مشدداً على ضرورة تعزيز هذه الثقافة من قبل الوالدين من خلال دمجهم في أنشطة وطنية وتعريفهم أكثر حول سير المجاهدين والمقاومين لتعزيز حب المقاومة في نفوسهم.
ومن جهة أخرى، أكد المتخصص الاجتماعي والنفسي أن كل ما سبق من جرائم صهيونية في غزة، "هي تجارب حية لدى الأطفال، وهى كافية لجعل وضعهم النفسي غير مستقر وملاذهم غير آمن" مشيراً إلى انه كلما زاد فقدان الأمن للأطفال كان البديل له القلق والتوتر وحمل المشاكل والهموم مبكراً.
وأوضح أن وضع انعدام الأمن أدى لحدوث صدمات شديدة لدى الاطفال في غزة إضافة لما شاهده الأطفال بأم أعينهم من عمليات قتل وتشريد لعائلاتهم منوهاً إلى الحرب أربكت السلوكيات الانفعالية والعاطفية والاجتماعية لدى الأطفال "وهذه ملوثات دخلت عقل الطفل وأثرت به".
ونوه أبو هين إلى أن التعامل مع الأطفال في مثل هذه الظروف، يتطلب الصبر والوعي من قبل الأهل، داعياً الأهالي لعرض أطفالهم على متخصصين نفسيين في حال ازدادت الأمور عن حدها وأصبح التعامل معهم أمراً مستحيلاً.
المصدر/ الاستقلال