عندما قدم الغزاة من أنحاء العالم الى فلسطين مدعومين من بريطانيا ودول غربية أخرى، لم يكن لديهم أي ارتباط بالأرض والقرى والمدن التي استوطنوها، فاخترعوا تاريخاً خاصاً بهم يعود الى آلاف السنين، ودمّروا وشوّهوا معالمها الحضارية والتاريخية الجلية، كي يمحوا أثر الوجود الفلسطيني المنافي لماضيهم المزعوم ويمنعوا اللاجئين والمهجّرين من العودة اليها، ظناً منهم أنه يمكن محو الذاكرة وطمس الهوية بقوة السلاح ومواصلة المجازر والإرهاب. لكن، وبعد 66 عاماً من تهجيرهم القسري، ما يزال اللاجئون والمهجّرون الفلسطينيون يتطلعون الى قراهم وبلداتهم، ويحاولون استعادة ملامحها الأصلية، وتذكر الحياة فيها قبل النكبة، من خلال روابط وجمعيات في الشتات، تعيد إحيائها عن بعد، في الوقت الذي تحاول فيه جمعيات وروابط في الداخل المحتل عام 1948، تضم أبناء البلدات والقرى المهجّرة، العودة إليها أو البحث عن سبل استعادة بعض أماكنها المقدسة من أيدي الغزاة.
وصف باحثون ما ارتكبته دولة العدو بحق الشعب الفلسطيني، عندما تم تهجيره الى خارج فلسطين وتشتيته في العالم وقطع أوصاله بزرع المستوطنات وشق الطرق المؤدية اليها وتدمير المؤسسات، بالإبادة المجتمعية (sociocide)، أي إبادة المجتمع الفلسطيني الذي كان يتمتع بكافة المكوّنات العمرانية والمهنية والمعرفية وغيرها، ويعيش ويتطور كباقي المجتمعات في العالم. رغم أن المصطلح ورد رفضاً لتبني مصطلحاً آخر وهو الإبادة الجماعية البشرية (génocide) إلا أنه يعبّر عن إحدى أخطر ممارسات الاستيطان الصهيوني في فلسطين، والتي ما يزال يطبقها في كل بقعة من فلسطين، في قرية رمية في الجليل كما في بلدة بيت صفافا في القدس، كما في النقب والخليل والأغوار. يأتي تشكيل الروابط والجمعيات المنتمية الى القرى والبلدات الفلسطينية كنوع من التصدي لهذه الإبادة المجتمعية، ووسيلة من الوسائل المتاحة للمحافظة على المجتمع الفلسطيني في اللجوء، وللتواصل بين اللاجئ وأرضه وبلدته وعائلته. من خلال هذه الروابط والجمعيات، يحاول اللاجئون لملمة ما تم تشتيته، والوقوف أمام التشتيت الإضافي بإحياء شكل من أشكال التواصل الاجتماعي والعائلي، داخل وخارج المخيمات.
تمثل الروابط والجمعيات، المنتسبة الى قرى وبلدات فلسطينية، إحدى أشكال الحياة الاجتماعية في مخيمات اللجوء في لبنان. ورغم تعدد الأسباب التي تقف وراء انشاءها، إلا أنها تعمل على استعادة العلاقة مع القرية أو البلدة الأصلية التي ينتمي اليها اللاجئ، بطرق وأساليب مختلفة. متى تم إنشاء هذه الروابط والجمعيات؟ وما هي أهدافها؟ كيف تطورّت؟ وما هو النشاط أو الأنشطة التي تقوم بها اليوم؟ وما هي الحواجز والمعيقات التي تقف أمام مسيرتها؟
أثار ظهور هذه الروابط والجمعيات بعض الأسئلة: لماذا الآن؟ هل هو العودة الى العشائرية في زمن الانقسامات والتراجع التنظيمي، أم يدلّ على انتماء مادي وعاطفي الى الجذور؟ هل هو بديل عن الانتماء لفلسطين بكل أرضها وشعبها؟ وهل يشكل بديلاً عن التنظيمات السياسية الفلسطينية؟
سبّبت النكبة في العام 1948 في تشريد أكثر من 800 ألف فلسطيني عن أرضه، منهم من بقي في الوطن ومنهم من تم تهجيره الى الدول المجاورة، لا سيما الى لبنان وسوريا والأردن. تشتّتت العائلة الواحدة الى عدة دول، كما تشتت أهل البلدة الواحدة. وبسبب الأزمات الأمنية والسياسية والاقتصادية في بعض الدول، لبنان خاصة، هاجرت عائلات أو أفراد منها الى دول أخرى، خليجية وأوروبية وأميركية. أي أن الروابط العائلية والاجتماعية تفكّكت أكثر من أي زمن مضى. هل تساعد الروابط والجمعيات التي تشكلت حول الانتماء الى البلدة على تفعيل العلاقات بين عائلاتها وتمتينها، رغم البعد الجغرافي، بفضل التقنيات الجديدة؟ وهل يمكن، انطلاقاً من مخيمات اللاجئين في لبنان، تفعيل العلاقات بين العائلات المشتتة من ناحية وبين العائلات التي بقيت في فلسطين المحتلة عام 48، حول هدف العودة الى القرية والبلدة والحيّ، والتخطيط لمستقبل يجمعهم على أرضهم، حتى لا يبقى حلم العودة الى البلاد مجرد حلم غير مرتبط بالواقع؟