القدس للأنباء - خاص
لا يختلف الإعلام الفرنسي كثيرا عن موقف رئيس الدولة، الذي أعلن منذ اليوم الأول، تأييده الكامل لكيان العدو معتبرا أن العدوان هو "دفاع عن النفس" ضد صواريخ المقاومة، وأن "فرنسا تقف الى جانب إسرائيل". رغم تراجع الرئيس الفرنسي قليلا عن إعلانه "الصادم"، ربما بسبب إنزعاج بعض أقطاب الحزب الإشتراكي الذي ينتمي اليه، لأنه أغفل في تصريحه سقوط المئات من الضحايا الفلسطينيين، أو كما يحلل البعض بسبب موقف الأمين العام للأمم المتحدة "المعتدل" أو حتى وزارة الخارجية الفرنسية التي تقف "تقليديا" بين "الطرفين"، لم يتراجع الإعلام الفرنسي عن موافقه المؤيدة للعدو، كما لاحظ العديد من مناصري القضية الفلسطينية.
يتميّز الإعلام الفرنسي عن غيره من الإعلام الأوروبي أو الغربي بشكل عام بانحيازه المفرط الى جانب دولة الكيان، إن كان يمينيا أو يساريا، ليس فقط لأن اللوبي الصهيوني في فرنسا يسيطر على بعض وسائل الإعلام الفرنسية (اليسارية خاصة) بل لأن العداء للإسلام والعرب سمة أساسية لهذا الإعلام، على الأقل منذ حرب إستقلال الجزائر والعدوان الثلاثي على مصر الناصرية في العام 1956. رغم مضي عقود على تلك الفترة، ووقوف الدولة الفرنسية الى جانب الأنظمة العربية وقضاياها في فترة السبعينيات وبداية الثمانينات، إلا أن الإعلام استمر في شحن النفوس لصالح الكيان الصهيوني بشكل عام، باستثناء بعض الصحافيين المعروفين كأصدقاء للشعوب العربية والشعب الفلسطيني، وباستثناء صحيفة الحزب الشيوعي الفرنسي وبعض المجلات تابعة أو غير تابعة لأحزاب والتي تبقى هامشية.
يعمل الإعلام الفرنسي خلال تغطيته للعدوان على غزة كبوق لجيش الإحتلال، اذ لا يلتفت الى الضحايا إلا من خلال الأرقام، رغم تواجد بعض المراسلين في قطاع غزة، الذين يفضلون الإتصال هاتفيا من غزة بالقيادة الحربية الصهيونية لمعرفة الأخبار بدلا من التوجه الى المسؤولين الإعلاميين والسياسيين في القطاع، أو حتى الى العائلات المصابة. هذا ما فعله مراسل الإذاعة الرسمية الفرنسية "فرانس كلتور" الذي "وصف" حالة ما قبل الإجتياح البري "المنتظر" في قطاع غزة بترديد أقوال القيادة الحربية الصهيونية، التي "تعمل ليلا نهارا رغم عطلة الشاباط (السبت)". ماذا عن أهل القطاع ؟ لا شيء. وفي صحيفة فرنسية، يصف المراسل جمال الطبيعة والإطلالة على مدينة رام الله وشوارعها من موقعه في مستوطنة مودعين، وينقل ما يقوله المستوطنون الحاقدون والقيادة الحربية عن سير المعركة. في مجمل الصحف الفرنسية، ليس للضحايا الفلسطينية أسماء، فهم أرقام تسقط في مدن الضفة الغربية أو في قطاع غزة، وكلها تنقل "بين هلالين" الأرقام التي توزعها المؤسسات الدولية: عدد الضحايا ومنهم الأطفال والمدنيون، عدد البيوت المدمرة، عدد الصواريخ التي تسقط على "إسرائيل" وعدد الغارات الجوية العدوانية.
بين الحين والآخر، تصدر صحيفة مقابلة مع "اختصاصي بشؤون الشرق الأوسط"، لتوسيع التغطية، ونادرا ما يكون متعاطفا مع الشعب الفلسطيني أو حتى مع مقاومته، وبهذه الطريقة تتنصل الصحف أو الإعلام بشكل عام من اتهامها بالإنحياز الى جانب العدو. قبل أيام، قامت قناة تلفزيونية تابعة للهيئة الرسمية الفرنسية للإعلام باستضافة السيدة ليلى شهيد، سفيرة السلطة الفلسطينية في بلجيكا. لم تكن تنتظر المذيعة إلا إدانة رسمية لحركة حماس، وعندما لم تحصل عليها، بل على العكس، أدانت السفيرة الفلسطينية العدوان الهمجي، إستغربت المذيعة وكادت تغضب من الأجوبة، قبل ان تنهي المقابلة سريعا.
في الإعلام الفرنسي، المقاومة بكل فصائلها، عدا حماس، غير موجودة، ولا يصدر أي موقف فلسطيني شعبي أو مؤسساتي داعم للمقاومة، وكأن المقاومة أو بالأحرى حماس، حركة خارجة عن الشعب، لا إمتداد لها في العمق الفلسطيني. والتركيز على حركة حماس كحركة "تقصف إسرائيل" يسعى الى فصلها عن الشعب الفلسطيني في عيون الجمهور الفرنسي، وليس تأكيدا على دورها المهم في المعركة وردها على العدوان. وعندما يريد مراسل فرنسي نقل بعض آراء اللذين تضرروا من تدمير بيوتهم، ينقل من يقول أن "المسلحين يختبئون ونحن المدنيون نبقى تحت القصف وتدمر بيوتنا". بهذا الشكل المشبوه إعلاميا ومهنيا، يتصرف الإعلام الفرنسي كبوق لآلة الحرب الصهيونية.
لا يعرف الإعلام الفرنسي تعدد الآراء، فهو نادرا ما ينقل الآراء المتناقضة أحيانا التي تصدر في الصحف الصهيونية، بين الذين يؤيدون العدوان والذين ينتقدونه، بين الليبراليين منهم والفاشيين، يتخندق الإعلامي الفرنسي لدى المؤسسة الحربية، من باب الكسل أكثر من خشية إتهامه بالـ"معاداة للسامية"، كما هو البوق للمؤسسة الصهيونية الفرنسية التي تبث السموم ضد الجماهير التي تظاهرت دعما للمقاومة في غزة. رغم سلمية المظاهرات التي عمت المدن الفرنسية، كما أكدته الأجهزة الأمنية الفرنسية، حاولت أكبر صحيفة محلية تابعة لشركة أسلحة فرنسية (لو بروغري) الإيحاء بأن "المتشددين الإسلاميين" حاولوا الهجوم ليس فقط على المحلات التجارية بل على أماكن عبادة اليهود، في مدينة ليون. أما في باريس، لم يخف الإعلام إنحيازه الى العدوان والى المؤسسة الصهيونية عندما نقل بشكل واسع ما سمي بالهجوم على كنيس يهودي، قبل أن يتضح أن المؤسسة الصهيونية روّجت لذلك "الهجوم" الذي لم يحصل إلا في مخيلة الصهانية، وذلك لأن المتظاهرين المتضامنين مع أهل غزة ومقاومتها رفعوا شعارات "متشددة" وباللغة العربية. أسفرت الهجمة الإعلامية الصهيونية الى صدور تصريحين رسميين من وزارة الداخلية ومن الرئاسة الفرنسية يقولان إنه من غير المسموح "تصدير" الصراع "في الشرق الأوسط" الى فرنسا، وتطالب الآن المؤسسات الصهيونية بمنع أي تظاهر تأييدا للشعب الفلسطيني في فرنسا.
في المقابل، يبدو الإعلام الفرنسي المتضامن مع القضية الفلسطينية ضعيفا، بعد تصفية البرنامج التلفزيوني الوحيد الذي كان يفسح المجال لأراء مختلفة، والذي استقبل بعض المثقفين العرب والمسلمين، وبعد الإعلان عن تصفية قريبة لبرنامج إذاعي يتعاطف نسبيا مع الشعب الفلسطيني والقضايا العربية. فلذلك لجأ المتضامنون الى المواقع الإلكترونية التي، رغم محدوديتها، تبث الأخبار والمقالات والتحليلات العربية والفلسطينية. يمكن تصنيفها بشكل عام الى ثلاثة أصناف، أولا المواقع التابعة للحزب الشيوعي الفرنسي ومؤسساته المتضامنة، أي التي تقف الى جانب السلطة الفلسطينية وترفض وتشجب "العنف المسلح الفلسطيني"، أي المقاومة. الصنف الثاني هي المواقع التابعة أو غير التابعة لمؤسسات متضامنة والتي تتابع أولا الأخبار الفلسطينية ومن ثم بعض الأخبار العربية، والتي تجهد لنقل أراء الشعب الفلسطيني ومقاومته من خلال الترجمات شبه اليومية، الى جانب آراء الإسرائيليين "غير الصهاينة" وآراء الكتاب والصحافيين الفرنسيين المتضامنين مع الشعب الفلسطيني. والصنف الآخر هي المواقع غير المتخصصة بالقضية الفلسطينية (إسلامية وغير إسلامية) التي تبث على صفحاتها مقالات وتحليلات مترجمة أو غير مترجمة عن الوضع الفلسطيني. لم يساعد الإعلام العربي والإسلامي الناطق باللغة الفرنسية، مهما كان مصدره، الى رفع مستوى الإعلام الفرنسي المتضامن، وخاصة بعد الأزمات العربية التي تمر بها المنطقة، إذ لم يعط مساحة كافية للأخبار عن العدوان على غزة، باستثناء الوكالة الإيرانية التي تتابع وتبث على مدار الساعة أخبار العدوان.
تعيش الساحة الفرنسية تعتيما إعلاميا رهيبا، رغم "الحريات" و"الديموقراطية"، ولكن يبدو أن "الحريات" تعني أن يتمكن المرء من شراء أجهزة يستطيع متابعة الأخبار على الفضائيات العربية فقط، أو متابعة الفضائيات الإنكليزية المختلفة. أما في فرنسا، وللفرنسيين أو الناطقين باللغة الفرنسية، يبقى الشعار هو الجهل.