يعترف المراقبون من الواقعيين الأميركيين بتراجع الدور الأميركي عالمياً. برأيهم، ثمة شكل جديد من حركيات التوازن الدولية الموجّهة أساساً ضد بلدهم. كان روبرت بايج من أبرز مشرعي ما يسمى بالموازنة الخارجية (offshore balancing) أواخر الـ2004 (أي ضرورة اعتماد حلفاء إقليميين لتعويض حجم التراجع). اصطلاحات توازن الأخطار والموازنة السلسة، لم تكن حكراً على أدبيات المدرسة الأميركية الواقعية. نهاية الألفية الثانية كانت شاهدة على كتابات كل من كينيث بولاك، جون لكنبري وشارلز كروثامر، من منظري الولسنية الجديدة. بدت كتاباتهم متوجسة من محددات القوة والنفوذ الأميركي الجديد. ثمة تراجع أميركي بيّن يقول الحال، لكن النقاش كان ولم يزل في مستوى هذا التراجع وتداعياته الممكنة.
مع الانسحاب الأميركي من العراق، تبدى مرة أخرى نقاش ـ في عالمنا العربي هذه المرة ـ، عن واقع التحول الدولي وموقع القيادة الأميركية في إدارة العالم. كانت آراء عدد من الباحثين المستبشرين ببداية أفول نجم القطب الأميركي، تنحو للحديث عن عالم متعدد وجديد. تكلفة الانسحاب الأميركي من أفغانستان، ميزان العجز الاقتصادي الأميركي، الصعود النوعي للكتلة الصينية، التوغل الروسي في إقليمي أبخازيا وأوسيتيا، مؤشرات اعتملت كمصاديق على تحول دولي آخذ في التموضع. لقد تراءى المشهد لوهلة وكأننا أمام لحظة مفارقة من تاريخ واقعنا السياسي.
يحملنا النقاش في شكل النظام الدولي وموقع القوى المؤثرة فيه، لإعادة استقراء واقع الأزمات والمؤثرات الفاعلة في مبانيه. كمثال، تشكل أزمتا سوريا وأوكرانيا، نموذجيـن لمصـالح دولية وإقليمية ومحلية مختلفة. إن مقاربة أي من المسألتين باعتبارها مسألة سياسية أولاً وآخراً، ستظل تفتقر لما يميط لثام الحقائق بواقعية فهمها الخاص. ليست المسألة السورية مسألة سياسية فحسب، للإشكالية مبتنياتها الثقافية والجهوية والتاريخية، فضلاً عن السياسية. إن كل تحليل يستقرئ المسألة السورية ببعدها السياسي ليس إلا، وعلى هدي صراع المحاور، يختزل من حيث لا يحتسب أبعاداً صميمية من آفاق هذا النزاع. ثمة ما يعتمل في رحى هذا المتوسط من رواسب أزمات الزمن الغابر. الهوية المتأزمة مضافةً لحصيل لا يُستهان به من فشل مشاريع النهضة، وانهيار مؤسسة الدولة، وأفول الخطاب القومي، كلها عوامل أسهمت، في إعادة تدوير المسألة السياسية في المنطقة، ومعها أعادت تدوير قراءات العواصم الكبرى المختلفة لمنازاعات هذا الفضاء من الشرق.
أواخر تشرين الأول 2011، وفي ورقة داخليـة أعـدها «منـتدى النزاعات» (conflicts forum) كمبادرة لفتح قناة تواصل غير رسمية بين حزب الله وحماس، نقع على فقرة ـ في مقدمة النص ـ على أهمية بمكان دلالياً وسياسياً؛ إن أي حلول أو أفكار يجب أن تنتج من ضمن المنطقة، وهذا يعكس الاعتقاد بأن كلاً من واشنطن وباريس ولندن ليس لديها ما تقدمه: الحلول ستتشكل في الداخل (داخل المنطقة)، وهي ستحول هذا التفكير إلى واقع لتجعله مؤثراً. للإشكالية المتوسطية محصلة سببية تضيف الورقة. إن أزمات المنطقة عصية على السياسة وحدها، ذاك ما يفسر بعضاً من سلوك الإدارة الأميركية في العامين المنصرمين. تتجنب أميركا «انجاز اتفاق نهائي» مع أي من أطراف النزاع، وتستفيد من افتقاد قناة تواصل بين المتنازعين (تلك سمة الحروب في الشرق الأوسط). كان لوورن كريستوفر ـ السفير الأميركي السابق في دمشق ـ مقولة لافتة عن الحرب الإيرانية العراقية: دعهم يدمون بعضهم البعض. هل لا تزال مقولة كريستوفر صالحة إلى اليوم؟
أواخر شهر أيار من العام 2013 كانت تقارير المؤسسة الأميركية للدراسات الأفغانية ـ المقرّبة من الاستخبارات المركزية ـ ترفع تقاريراً عن «تقدم ملحوظ» في الحوار مع شبكات حقاني الجهادية/ الإخوانية. مطلع الـ2014 كان الرئيس أوباما يدلي بخطابه عن حال الأمة؛ لقد شرعت أميركا في بناء حوار نووي ـ في الظاهر ـ مع إيران الإسلامية. أيام قلائل كان وزير الدفاع الأميركي تشاك هيغل في مطار عبد العزيز في الرياض، يؤكد استمرار النهج الأميركي في تبني المملكة الوهابية.
لم تعتمد الإدارة الأميركية حتى اليوم حليفاً موثّقاً، كما أنها لم تنجز حتى الساعة اتفاقاً محكماً مع أي من أطراف النزاع في المنطقة. بإمكاننا توصيف المرحلة بمرحلة تشابك المفاوضات. تخول هذه المرحلة الإدارة الأميركية أفضلية الاختيار بحسب قواعد المساومة والتفاوض. لفيلنر (w.feilner)، أواخر الأربعينيات، رأي في المفاوضات المتعددة. على أي اتفاق يُستخلص من حالات المفاوضات المشابهة ـ وفي حال افتقاد الثقة بين المتفاوضين ـ، الالتزام بسقف الحد الأدنى من الأرباح المشتركة.
أوكرانيا، «بيّنة النظام الدولي الجديد» مسألة خلافيـة أخرى. بغض النظر عن موازين القوى الداخلية ومآلاتها، ليست المسألة الأوكرانية مسألة أميركية أولاً. وبالنظر لتاريخ الصداقة الأميركية ـ الأوروبية اللدودة، فإن مجريـات التـوتر في الشرق الأوروبي لا تُقرأ بداية بغير موازين الأوراسيا التقليدية. كان لألكسندر دوغين وفلاديمير زيرينوفسكي قراءة تعتبر المسألة الأوكرانية مسألة ألمانية ـ روسية أولاً. لأوكرانيا وبولندا حساباتهما الخاصة في السياستين الروسية والألمانية. معاهدة برست ـ لتوڤسك، واتفاقية عدم الاعتداء الأمانية ـ السوفياتية عام 1939 كانتا مؤشرين لخصوصية حسابات شرق أوروبا، تمر علاقات كل من موسكو- ووارسو ببرلين، تمر علاقات كل من كييف ـ برلين بموسكو. يشكل الخط الممتد من وارسو حتى كيشينوف وترانسنيستريا/ ملدوفيا، مؤشراً لاستقرار كل من السياستين الروسية ـ الألمانية.
تعي أوروبا جيداً فارق الوجهة بين أزمتي أوكرانيا 2014 ويوغسلافيا. لم تعد الولايات المتحدة مستعدة، ومنذ زوال الاتحاد السوفياتي، لممارسة دور تدخلي ثابت في جميع القضايا السياسية ـ العسكرية العالمية. لقد استمهلت الصراع في يوغسلافيا من قبلُ سنوات أربع، قبل أخذ زمام المبادرة أواخر العام 1995، (بفضل شهية المركب الصناعي ـ العسكري الساعي لاستثمار اقتصاديات الدول المتطلعة لعضوية الحلف الأطلسي)، وقد لا تبادر اليوم في ظل توازنات ومقتضيات الحديث عن ضرورة إعادة إصلاح منظمة «حلف شمال الأطلسي».
إلى أي مدى تراجعت أميركا؟ حذار الوقوع في غواية التمني. أواخر أيار المنصرم (21 و22 أيار)، أقرّ اجتماع مجلس وزراء دفاع «حلف شمال الأطلسي» إستراتيجية «التكيّف الجديدة». الاستراتيجية التي أُعدت لمجابهة «استفزازات غير متوقعة» من الجار الروسي، تتطلع واشنطن لتدعيمها بشراكات تجارية واستثمارية عابرة للأطلسي، وقد تمتد لتطاول المحيط الهادئ في مراحل متقدمة. إعادة موضعة انتشار القوات الخاصة الأميركية في شرق أوروبا نقطة أخرى على قدر من الأهمية. تصريح أوباما مطلع الشهر الجاري، ومن مطار أوكينتشي في وارسو، عزمه زيادة عديد القوات الخاصة الأميركية في أوروبا الشرقية، مسألة أخرى تتعمق دلالتها مع تعهد أوباما التزام أمن المنطقة بأسرها. وهو التزام قد يتجاوز الحافة من الشرق الأوروبي.
«إن من يُحدثك عن أن القوة الأميركية في انهيار، لا يعرف بالضبط عما يتحدث عنه» قال أوباما في خطاب حال الأمة مطلع عام 2012. لماو تسي تونغ فترة الخمسينيات رأيه هو الآخر؛ «إن أميركا قوة عالمية متدهورة وخائفة، وغير قادرة حتى على فرض هيمنتها على الدول الرأسمالية». لم تصدق مقولة ماو الرؤيا حتى اليوم، مثلما قد لا يُصدق الفعل مقولة أوباما. لكن قياس واقع التراجع الأميركي والتحول الدولي، بأدوات ورؤى سياسة الأمس وحدها، قد لا يبدو كفيلاً بيسير الحقيقة والمعرفة. لقد تبدلت أزمات العالم وتحولت، وكذلك اقتصاديات حروب الما ـ بعد تقنية تغيّرت. هل تحمل الأيام القادمة نذراً توكلنا لفهم أكثر واقعية لدور وواقع أميركا؟. مؤشران يكتنزان دلائل تكثيفية لمنطق الواقع الدولي والهيمنة الأميركية، قد يستثيران انتباه المراقبين في الأشهر الست المقبلة؛ الاستثمارات الألمانية في حقل فولغا الروسي للطاقة. والحديث عن إمداد المعارضة السورية بأسلحة مخلة بالتوازن. وحتى حينه سيبقى السؤال مشرعاً عن المدى الذي تراجعته أميركا.
المصدر: السفير