عبد السلام الخير
«عظمة «إسرائيل» ليست في قنبلتها الذرية ولا ترسانتها المسلحة، إنما تكمن في انهيار ثلاث دول هي العراق ومصر وسورية. وهذا ما نعمل عليه...» - بن غوريون محاولات «إسرائيلية» عديدة بذلت في مراحل زمنية مختلفة لتحقيق هذه العظمة، إذ يستوقفنا بصورة خاصة مشروع «حلف بغداد» الذي عاد لينطلق مع الاحتلال الأميركي للعراق العام 2003، وما تبعه من تهاوي الاستقرار العربي وفق مبدأ «احجار الشطرنج». «جمهـورية فيلتمان» بحثاً وكتاباً لمحمد أحمد النابلسي يتابع هذه المرحلة ويرصد تحوّلاتها، مشيراً إلى ان القطار الاميركي توقف في المحطة العراقية عاجزاً عن إكمال مسيرته نحو المحطة السورية، فقفز الى الخاصرة السورية الخلفية ليعاود انطلاقته من بيروت. انطلاقة استخدمت القوة الناعمة بعد استنفاذ القدرات العسكرية. وكان اغتيال الرئيس الحريري فرصة سانحة لتثبيت السيطرة الأميركية على لبنان وإقامة ما يعتبره المؤلف «جمهورية فيلتمان اللبنانية». العنوان الفرعي للكتاب يكمل هذه الرؤية بتظهير أدواتها باعتباره «جمهورية فيلتمان» مقدمة صعود الرعاع السياسي العربي. إذ يتعمّد الأميركيون تبنّي شخصيات من قاع المجتمع ووضعها في الواجهة السياسية. إنّها ملاحظة يؤكدها المفكر محمد حسنين هيكل، مدعومة بالقرائن، والملاحظة التي تشمل بحسب الكتاب لبنان والدول العربية التي تقوض استقرارها بفعل «جمهورية فيلتمان» المنطلقة من بيروت. يستفزّنا الكتاب منذ عنوانه ويحضنا على التوغل في صفحاته عبر التسلسل الزمني والربط المتقن لتتابع الحوادث الجلل والمفصلية في هذه المرحلة. فالقاعدة الذهبية في هذه القراءات تقول إن «الكل مختلف عن مجموع الأجـزاء»، وهذا الكل الجامع يهب الكتاب تميزه وأهميته وقدرته على اعادة ترتيب أفكار القارئ وفق رؤية شاملة غير مشتتة لتلك المرحلة. يقدم هذا الكتاب قراءة واقعية لحوادث المنطقة عامة ولبنان خاصة في حقبة مابعد «11 ايلول» إلى ما بعد اغتيال الحريري، مستعرضاً أهم حوادث المنطقه خلال تلك الحقبة الزمنية التي قادتها واشنطن مع حلفائها عبر وجودها العسكري في المنطقة، محاولةً فرض واقع جديد يكبت ويموه مسلمة أن «إسرائيل» هي العدو الواقعي للبنان ولأمتنا كلّها. في السياق، يستحضر الكاتب الحوادث التي رافقت تحولات المنطقة، طارحاً التساؤلات حول مستقبل المنطقة بعد تغييرها وقلبها، من خلال توظيف «الفوضى البناءة» التي حركت قعر البحيرة، ليطفو على سطحها ما كان طمر فيشكل غطاء زائفاً لواقع هش. لعل المؤلف أراد في قراءته أن يوصّف خطوات تنفيذ هذا المخطط من دخول أميركا في حربها المفبركه ضد العراق ثم توجيه البوصلة نحو بيروت لتكون شرارة ما يسمى بـ «الثورات العربية»، عبر اشعال فتيل الأزمة التي أضرمت باغتيال الرئيس الحريري، فتوظف على شكل استعراضات واستغلال سياسي بدءاً بالجنازة واستمراراً بمسلسل الاغتيالات الموقتة غب الطلب، للوصول الى تصعيد الضغوط على دمشق آخر معاقل العروبة بعد احتلال العراق وتدميره. يتوزع الكتاب على تسعة فصول تكاد تلخص واقع اللعبة الجيو سياسية في المنطقة، مركزاً على الدور الذي لعبه السفير فوق العادة جيفري فيلتمان في لبنان من خلال التدخل المباشر وغير المباشر وتحضير الأجواء السابقة واللاحقه لمقتل الحريري، مشيراً الي ممارسة الضغط على حكومة الرئيس كرامي لترحيلها قبل الاستحقاق الانتخابي، ثم إصراره على عدم تأجيل الانتخابات كي لا يتسنى للناخب أن يصحو من هول صدمة الاغتيال. في السياق يقدم المؤلف تحليلاً مسهباً للواقع اللبناني والدولي في فترة ما قبل الاغتيال وما بعدها، مبيناً تفرد فيلتمان بالمشهد السياسي اللبناني في تلك الفترة، بدءاً من التحضير للقرار 1559 وصولاً إلى إنتاج طبقة سياسية مستجدة وطارئة على الحياة السياسية اللبنانية، وهي طبقة انتجت خصيصاً لتنفيذ رغبات مفبركيها بقيادة فيلتمان. كما يلفت الكاتب إلى دور المحقق ديتليف ميليس بالتلاعب في سير التحقيق في الاغتيال، وفقاً لرغبات المهندس الأميركي بغية إكمال المشهد الهوليودي والإسراع في توجيه الاتهام إلى أشخاص حددوا مسبقاً على نحو يتيح تقسيم البلد بين فئة «القتـلة» وفئة «المطالبين بالحقيقة» التي ما لبث اصحابها ان أهملوها بعد إتمام التسويات. ويفرد الكتاب فصولاً لتحليل الواقع الطائفي في لبنان، خاصة السني، سواء قبل اغتيال الحريري أو بعده، متطرّقاً إلى توصيف كيفية تعامل ورثة الحريري مع الزعامات الفعلية والتاريخية للطائفة السنية. كما يلتفت الكاتب إلى الظلم الذي تعرضت له الزعيم السني عمر كرامي منذ ما بعد الطائف وتسليم ملف لبنان الاقتصادي الى رفيق الحريري وإقصاء الرئيس كرامي بمساعدة ودعم من الأمن السوري، ومن ثم بدعم فيلتمان قبيل الاغتيال وبعده، إذ كانت لفيلتمان اليد الطولى في تعويق المشاركة في حكومة كرامي عام 2004 ثم دفعها إلى الاستقالة عقب الاغتيال. هنا نتوقف عند عرض المؤلف للحوادث ما قبل اغتيال الحريري، لافتاً الى نقطة مهمة تصلح لأن تكون منطلقاً لمن يريد» الحقيقة»، ذلك أن الرئيس الحريري كان خشبة خلاص للنظام السوري إبان الضغط الذي كان يتعرض له، وكأنّ الأمر على مقربة من التوافق لإجراء مصالحة تاريخية، بحيث يعود الحريري الي الحكم وتفك عزلة سورية بفتح أبواب الإليزيه أمامها. يقدم الكتاب دراسة تسلط الأضواء على الوقائع والحوادث والمواقف التي حاولت سياسة فيلتمان تزويرها وتقديمها محرفة الى المواطن اللبناني والعربي، مع ترك القارئ يستخلص العبر ويكوّن آراءه ومواقفه من خلال المقاربات المستندة الى البحث العلمي المنطقي ولتسلسل الحوادث ونتائجها .
المصدر: صحيفة البناء