تمكنت النخب السياسية الفلسطينية في الربع الثالث من القرن الماضي أن تجعل من القضية الفلسطينية القضية الأولى على المستويين العربي والإسلامي، واستطاعت هذه النخب أن تنقل ملف المطالب الفلسطينية إلى أروقة المحافل الدولية، بمساعدة المخلصين من القادة والساسة العرب والمسلمين والكثيرين من أحرار العالم في الشرق والغرب.واستطاعت بفضل هذه المساندة أن تحقق مكاسب قانونية وسياسية كثيرة، ترجمت على أرض الواقع في صور قرارات أممية وإقليمية، كان من أبرزها القرار الأممي رقم 3379عام 1975الذي اعتبر الصهيونية شكلاً من أشكال العنصرية والتمييز العنصري، وفي جانب آخر تبلورت فكرة المقاطعة التي نفذتها كثير من الدول بصورة جدية وكان لها تأثيرات معنوية ومادية واضحة.
وقبل هذا وذاك؛ كانت القضية الفلسطينية بكل آلام وآمال وتطلعات الشعب العربي فكراً وضميراً ووجداناً، ولم يشذ عن هذا المسار إلا قلة قليلة، كانت محل استهجان ونقد في المجتمع العربي.ظهر هذا الفهم الطبيعي جلياً في مناهج تعليمنا وفي ثقافتنا وأدبنا المقروء والمسموع، وصارت القضية الفلسطينية هي الهم الأكبر الذي يشغلنا، وتعرفنا بصورة لا تقبل الشك إلى المُهَددَ الأكبر لوجودنا كأمة، والخطر الأعظم على هويتنا العربية والإسلامية، فكتب شعراؤنا ما كتبوا، وأنشد منشدونا، ورددنا بكل صدق وإخلاص معهم؛ "أخي أيها العربي الأبي أرى اليوم موعدنا لا الغدا..أنتركهم يغصبون العروبة مجد الأبوّة والسؤددا".
من خلال هذه الحقبة تخرج أغلب مناضلي الأمة الذين حملوا راية مقاطعة الكيان المغتصب لأرضنا العربية في فلسطين، حيث لم يعد بالإمكان بأي حال من الأحوال مناقشة فكرة التصالح مع العدو، فضلاً عن فكرة التطبيع.لهذا، كان هؤلاء القادة مانعاً صلباً يصدّ كل الأفكار الداعية إلى التقارب مع العدو، ولهذا، استهجن العرب بكل توجهاتهم نداءات الحبيب بورقيبة، ونعتوه بالخيانة والعمالة.وعلى الرغم من ذلك، فإن الهجمة على الأمة كانت شرسة والتخطيط كان محكماً، وكانت الخلافات العربية-العربية بمرتبة السوس الذي ينخر الموقف العربي الموحد آنذاك، فجاءت هزيمة 1967م لتضاعف من معاناة القوى المناهضة للصلح، بل إن بعض الجماهير العربية صارت تنفضّ عن قياداتها التقليدية وتبحث عن قيادات ومجتمعات تؤمن لها لقمة العيش.
وجاءت كامب ديفيد لتكون القشة التي قصمت ظهر بعير العرب، حيث وصل رئيس أكبر دولة عربية إلى"تل أبيب"وخاطب المحتلين في"الكنيست"، وتبادلت مصر والكيان التمثيل الدبلوماسي على أعلى مستوياته.وغزا العراق الكويت، وجاء مؤتمر مدريد الذي لم توافق دولة الكيان على حضوره إلا بعد أن يلغى القرار رقم 3379فصدر قرار آخر وهو 8646عام 1991يُعتَذَرُ بموجبه من دولة الكيان، فكانت هذه هي القشة التي قصمت ظهور كل جمال العرب.وبموجب ذلك صارت البيئة العربية مهيأة للصلح والتطبيع وغيرهما، خاصة بعد وفاة جيل من رواد النهضة العربية ممن حملوا هَم تحرير الأمة وتجنيبها الخضوع للهيمنة الغربية.
في أيامنا هذه يستطيع القارئ أن ينظر إلى الخريطة الجيوسياسية العربية ويتحقق ما إذا كان المخطط الصهيوني قد حقق ما يريد حتى الآن؟ حيث يبدو أن الأمور تسير في العالم العربي على هوى السياسة الصهيوأمريكية؛ وحيث لم تعد القضية الفلسطينية على سلم أولويات الإنسان العربي أو المسلم، ويتضح ذلك في حجم ونوع الموضوعات التي تتضمنها مناهج التعليم في الأقطار العربية وفي كل المستويات الدراسية، وفي البث التلفزيوني الترفيهي منه والإخباري، حيث يندر أن نسمع عن فلسطين إلا من خلال بعض القنوات التي تبث خبراً مثل؛ إطلاق صاروخ من قطاع غزة لم يحدث أية أضرار، وهجوم من الطيران"الإسرائيلي"على القطاع استهدف"الإرهابيين"الفلسطينيين.
ليس عيباً أن يهتم المواطن العربي بشؤون بلده، لكن العيب كل العيب أن ننسى أن المُهَددَ الأعظم لوجودنا جميعاً هو العدو الصهيوني ومن ناصره، ذلك العدو الذي تسبب في أغلب مشكلاتنا، وأسهم بتخطيط محكم في تخلفنا على الصّعد كافة، وهو الذي عمّق من خلافاتنا.صحيح أننا ارتكبنا من الأخطاء ما يُسهّل مهام عدونا، وقدمنا له رقابنا، وسلمناه"حطام قوافلنا"، ولكن ذلك ليس مبرراً لأن نسير خلفه إلى مالا نهاية.
المصدر- صحيفة الخليج الإماراتية