في خضمّ هذا العصر المضطرب الذي تشهده منطقتنا، وفي لحظةٍ تاريخيّةٍ يتكثّف فيها الغبار فوق خرائط المنطقة، ويختلط فيها صوت القصف بضجيج المنابر، يبرز في لبنان والعالم العربي نموذجٌ سياسيّ هجين: فئةٌ ترفع راية "السيادة" لفظًا، بينما تمارس نقيضها فعلًا، وتستبطن منطق الاحتلال، بل وتعيد إنتاجه بلغةٍ محليّةٍ مصقولة. هؤلاء "السياديّون" لا يقفون على هامش الصراع، بل يتموضعون في قلبه، لا بوصفهم مقاومين، بل كوسطاء خطاب، ووكلاء سرديّة، وحراس معنى مقلوب.
السيادة، في معناها الكلاسيكي، ليست شعارًا يُرفع عند الحاجة ولا أداةَ تصفية حسابات داخليّة. هي قدرة الدولة والمجتمع على تقرير مصيرهما بحرّية، وحماية أرضهما، والتحكّم بقرارهما السياسي والاقتصادي والأمني دون إملاء خارجي.
لكنّ المفارقة الصارخة أنّ بعض من يملأون الفضاء الإعلامي اللبناني والعربي بالحديث عن "الدولة" و"الشرعيّة" و"الحياد"، لا يتردّدون في القفز فوق أبجديّات "السيادة" نفسها حين تتعارض مع مصالح القوى الغربيّة أو مع السرديّة "الإسرائيليّة" السائدة.
في غزة، حيث تُختبر الأخلاق السياسيّة على مرأى العالم، انكشف هذا التناقض بأوضح صوره. فبينما يُحاصَر أكثر من مليوني إنسان، وتُدمَّر المدن فوق رؤوس أهلها، ويُستخدم الجوع والدواء والماء كسلاح، ينشغل "السياديّون" بتفكيك لغة الضحيّة بدل مساءلة منطق القاتل. ويتحوّل النقاش من سؤال: من يحتل ومن يُحتل؟ إلى جدلٍ عقيم حول "سلوك المقاومة"، وكأنّ الاحتلال ظرفٌ قابل للتأجيل، أو تفصيلٌ ثانوي في معادلة الدم.
أما في لبنان، فالصورة أكثر تعقيدًا، لأنّ الاحتلال هنا لا يُختزل فقط بالدبابة والطائرة، بل يتخذ أشكالًا ماليّة وسياسيّة وثقافيّة. دولةٌ مُقيّدة بشروط المانحين، اقتصادٌ مرتهن لوصفات خارجيّة، وحدودٌ تُنتهك جوًا وبحرًا، فيما تُشنّ حملات داخليّة شرسة على أي عنصر قوّة خارج القالب الغربي المسموح. السيادة، في هذا الخطاب، تُفصَّل على قياس السفارات، وتُختزل بنزع عناصر الردع، لا ببناء دولةٍ قادرةٍ فعلًا على حماية نفسها. وتُعرَّف لا باعتبارها استقلالًا سياسيًا واقتصاديًا وأمنيًا، بل باعتبارها التزامًا بشروط الخارج، وامتثالًا لمعادلات فرضتها موازين قوى دولية لا ترى في لبنان إلا ساحة ضبط وتصفية.
الأخطر من ذلك أنّ هذا التيار لا يكتفي بالتماهي مع الخارج سياسيًا، بل يتبنّى لغته الذهنيّة: يعيد إنتاج مفاهيم "الإرهاب" و"العنف" و"الشرعيّة" كما صاغتها مراكز القرار الغربي، دون تفكيكٍ تاريخي أو أخلاقي. يصبح المقاوم مشكلة، والاحتلال "نزاعًا"، والتطبيع "خيارًا عقلانيًا" لتحقيق "السلام" المزعوم، والصمت عن الإبادة "واقعيّة سياسيّة". ليُعاد إنتاج سردية تعتبر أن المشكلة ليست في الاحتلال ولا في العدوان، بل في كل من يرفض الاستسلام لشروطه.
هكذا يُقلب الصراع من صراع تحرر إلى نزاع داخلي، ومن مواجهة الاحتلال إلى "خلاف لبناني - لبناني" أو "فلسطيني - فلسطيني"، وتُفرَّغ المفاهيم من محتواها، لتتحوّل الثقافة السياسيّة إلى أداة تبرير لا إلى فعل نقد. وهي التقنية الكلاسيكية التي استخدمتها القوى الاستعمارية تاريخيًا: تفكيك الجبهة الداخلية قبل فرض الحلول.
اللافت أن "السياديين" الجدد لا يسألون: كيف تكون السيادة مع اقتصاد خاضع للوصاية؟ كيف تكون الدولة قوية بلا قدرة ردع، وبلا استقلال مالي، وبلا حماية لثرواتها وحدودها؟ كيف تُستعاد السيادة فيما الطائرات المعادية تخرق الأجواء يوميًا، والقرارات الكبرى تُصاغ خارج المؤسسات الوطنية؟
في هذا السياق، يصبح خطاب "السيادة" المفرغ من مضمونه أداة خطيرة، لأنه لا يواجه المشروع الخارجي، بل يسهّل تنفيذه من الداخل، ويمنحه شرعية أخلاقية زائفة كما يكون "السياديّ تحت الاحتلال وفي خدمته" ليس بالضرورة عميلًا بالمعنى الأمني الضيّق، بل هو نتاج منظومة كاملة: إعلام موجَّه، تمويل مشروط، ونخب ترى في رضا الخارج شهادة حسن سلوك. وهو، في الوقت نفسه، تعبير عن أزمة أعمق: أزمة ثقة بالذات الجماعيّة، وبقدرة المجتمعات على إنتاج خياراتها خارج الوصاية.
في المقابل، يعلّمنا تاريخ المنطقة أنّ السيادة لا تُمنح، بل تُنتزع، وأنّ الدول لا تُبنى على الفراغ ولا على التمنّي، بل على توازن قوّة، ووحدة سرديّة، ووضوح في تعريف العدو والصديق. وأنّ النقد الحقيقي للمقاومة لا يكون من موقع الاستعلاء الأخلاقي المتواطئ، بل من داخل مشروع تحرّري يسعى إلى التطوير لا إلى التفكيك.
اليوم، ومع اشتعال الجبهات وتحوّل المنطقة إلى ساحة إعادة رسم نفوذ، يصبح السؤال ملحًّا: هل السيادة شعارٌ للاستهلاك الداخلي، أم مشروع تحرّر فعلي؟ هل هي معركة ضد السلاح المقاوم فقط، أم ضد كل أشكال الارتهان؟ في الإجابة على هذا السؤال، يُحدَّد موقع كلّ طرف: إمّا في صفّ الشعوب التي تناضل لتكون، أو في صفّ أولئك الذين يرفعون علم السيادة… فوق أرضٍ مُحتلّة، وبخطابٍ يخدم الاحتلال.