انفجرت أزمة تجنيد «الحريديم» كفضيحة سياسية، عنوانها الابتزاز المنظّم من جانب الجماعات المتديّنة. فبينما يُدفع الجنود إلى جبهات القتال ويُستنزف الجيش، يفرض المتديّنون إعفاءاتهم بالعنف والتهديد بإسقاط الحكومة، فيما يَظهر بنيامين نتنياهو عاجزاً عن فرض قانون واحد على شركائه. وهكذا، لم تَعُد أزمة تجنيد «الحريديم» مجرّد خلاف قانوني داخل إسرائيل، بل تحوّلت إلى اختبار لهيبة الدولة ومعنى المساواة وحدود الحضور الديني في السياسة. وفي خضمّ ذلك، يجد نتنياهو نفسه مُحاصراً بين غضب الشارع وضغوط المؤسسة العسكرية وابتزاز شركائه في الائتلاف، ما يجعله غير قادر على حسم هذا الملفّ عبر تشريع قانون تجنيد يحظى بإجماع ائتلافي، ويستجيب في الوقت ذاته لضغوط المؤسسة العسكرية والقضاء والرأي العام.
ومع تصاعُد الاحتجاجات الميدانية والتهديدات السياسية، باتت الأزمة تمسّ بشكل مباشر تماسك الائتلاف الحاكم واستمراره. فخلال الأيام الأخيرة، شهد الميدان تصعيداً لافتاً تمثّل في مواجهات وُصفت بالعنيفة بين مجموعات من «الحريديم» وشرطة الاحتلال في عدّة مواقع - أبرزها القدس وعسقلان -، وأسفرت عن إصابة عشرات من عناصر الشرطة، واضطرار الأجهزة الأمنية إلى الدفع بتعزيزات كبيرة، شملت استخدام طائرات مروحية ووسائل تفريق مختلفة.
وفي الموازاة، تصاعد التوتّر السياسي، بعد تهديد قيادات حريدية، نتنياهو بدعم حلّ «الكنيست»، والتوجّه إلى انتخابات مبكرة، ما لم تُسرّع الحكومة مناقشة مشروع قانون يعفي أبناء التيار الحريدي من الخدمة العسكرية، في ما يكشف حجم نفوذ الأحزاب الدينية داخل الائتلاف، وقدرتها على ابتزازه في ملفّات مصيرية. وممّا صار واضحاً، أن «الحريديم» ليسوا مستعدّين للتنازل عن الامتيازات التي تمتّعوا بها لعقود، وفي مقدّمها الإعفاء شبه الكامل من التجنيد الإجباري، إلى جانب امتيازات مالية تُمنح لطلبة المعاهد الدينية المتفرّغين للدراسة. ويقود هذا الموقف الحاخامات والمؤسسات الدينية التي ترى في التجنيد تهديداً مباشراً لنمط حياتها وهويتها الدينية، إلى الانتقال من الضغط السياسي إلى المواجهة الميدانية.
وفي هذا السياق، أغلق عشرات المتديّنين الحريديين المدخل الشمالي لمدينة عسقلان، بعدما منعتهم الشرطة من الوصول إلى منزل ضابط كبير في الشرطة العسكرية، هو المسؤول عن ملف تجنيد «الحريديم». وجاء ذلك التحرّك ضمن سلسلة احتجاجات متصاعدة، على خلفية ملاحقة شبّان متّهمين بالتهرّب من الخدمة العسكرية، وتخلّله انتقال المتظاهرين من القدس إلى عسقلان في رسالة تصعيد واضحة. وسبقت احتجاجَ عسقلان، مواجهات هي الأوسع والأعنف من نوعها في القدس، وتحديداً في حي «روميما»، عقب قيام مفتش بلدية بتحرير مخالفة وقوف لمركبة، ليتبيّن لاحقاً أن ركابها شبان متدينون متشدّدون مصنّفون كَفَارّين من الخدمة الإلزامية. وسرعان ما تجمّعت حشود كبيرة، واندلعت مواجهات عنيفة تخلّلها رشق الشرطة بالحجارة ومهاجمة مركباتها، ما أسفر عن إصابة 13 شرطيّاً، وإلحاق أضرار بعدد من الآليات، إضافة إلى الاعتداء على حافلة تقلّ جنوداً، فيما اضطرّت الشرطة إلى استخدام قنابل الصوت ووسائل تفريق أخرى لاستعادة السيطرة.
وتحوّلت هذه المواجهات إلى مادة دسمة للتراشق السياسي والإعلامي داخل إسرائيل، حيث شنّت المعارضة هجوماً حادّاً على حكومة نتنياهو، متّهمةً إيّاها بالعجز والتواطؤ. واعتبر زعيم المعارضة، يائير لابيد، في منشور عبر منصّة «إكس»، أن ما جرى يعكس «فشلاً حكوميّاً خطيراً وتفكّكاً في مؤسسات الدولة»، مشدّداً على أن «التهرّب من الخدمة لا يمكن أن يتحوّل إلى ظاهرة محمية بالعنف». ومن جهته، قال زعيم حزب «إسرائيل بيتنا» اليميني المعارض، أفيغدور ليبرمان، إن «المتهرّبين من التجنيد يهاجمون الشرطة في القدس لأن قيادة الدولة باتت خاضعة للحريديم».
وتستند انتقادات المعارضة إلى جملة عوامل، أبرزها النقص الحادّ في عديد الجيش بعد أكثر من عامين من الحرب، وما رافقها من خسائر بشرية واستنزاف واستقالات واسعة في صفوف الجنود والضباط. ويضاف إلى ذلك، تجاهُل الحكومة قرار المحكمة العليا الصادر عام 2024، والذي يُلزِم «الحريديم» بالخدمة العسكرية، ومنع تقديم الدعم المالي للمؤسسات الدينية التي يرفض طلبتها التجنيد.
وإذ تضغط الأحزاب الدينية لتشريع قانون الإعفاء في أقرب وقت، مستندةً إلى قوّتها البرلمانية المتمثّلة في 11 نائباً من حزب «شاس»، و7 نواب من «يهدوت هتوراة»، فإن نتنياهو يسعى إلى الحفاظ على حكومته حتى نهاية ولاية «الكنيست» الحالي في تشرين الأول 2026، وهو ما يفرض عليه استرضاء الحريديم بشكل أو بآخر. ووجّه 18 نائباً حريديّاً رسالة مباشرة إلى مكتب نتنياهو طالبوه فيها بالتسريع في المصادقة على قانون الإعفاء، ملوّحين بورقتَي ضغط أساسيتَين: عدم دعم الموازنة العامة، والدفع نحو انتخابات مبكرة. وترى الأحزاب الحريدية أن الظرف السياسي الراهن مناسب لحسم الملفّ نهائيّاً لصالحها، في ظلّ ضعف رئيس الحكومة وحاجته الماسّة إلى استقرار ائتلافه. كما تخشى هذه الأحزاب من أن أيّ حكومة مستقبلية قد لا تكون مستعدّة لمنحها الامتيازات ذاتها.
وتأتي هذه التطوّرات بالتزامن مع شروع «لجنة الخارجية والأمن» في «الكنيست» في مناقشة مشروع قانون التجنيد الذي طرحه رئيسها، بوعز بيسموت، عن حزب «الليكود»، والذي ينصّ على منح طلبة المعاهد الدينية المتفرّغين للدراسة، «تأجيلات» سنوية من التجنيد، مع حذف بنود رقابية وعقابية كانت واردة في صيغ سابقة، وهو ما أثار انتقادات واسعة داخل الائتلاف والمعارضة على حدّ سواء. ووفق صحيفة «تايمز أوف إسرائيل»، اعتبر منتقدو المشروع أن الأخير مليء بالثغرات، ويفتقر إلى آليات فعّالة تضمن زيادة حقيقية في نسب التجنيد، ما يجعله أقرب إلى إعادة إنتاج الأزمة بدلاً من حلّها.
وفي المحصّلة، تهدّد أزمة تجنيد «الحريديم» بإشعال مواجهة داخلية واسعة، قد تقود إمّا إلى تفكُّك الائتلاف أو إلى فرض قانون يكرّس الانقسام المجتمعي، في لحظة إقليمية بالغة الحساسيّة.
المصدر: الأخبار اللبنانية