يفرح الفلسطينيون بعمليات تعبيد الطرق، إنها ممارسات لطالما رأوا فيها جزء من حالة البناء والتطور والحياة، لكن المشاهد القادمة من مخيمات شمال الضفة وضعت الأيدي على القلوب، فـ"الزفتة/ مادة التعبيد السوداء" كانت فوق منازلهم التي تضمنت أحلامهم وذكرياتهم.
ويبدو طقس التعبيد الجديد إشارة جديدة من ضمن مجموعة إشارات يقوم بها الاحتلال للتدليل على قرب نهاية عمليته العسكرية في مخيمات شمال الضفة (مخيّم جنين لليوم الـ 832 على التوالي، ولليوم الـ 232 في مخيّمات طولكرم).
الخطوة الثانية ترتبط بتقديم قائمة الشروط الخمسة التي وفقها ستسمح دولة الاحتلال لعودة اللاجئين إلى المخيمات، وتحديدا لمن بقي من بيوت في المخيمات الثلاثة، وهو الأمر الذي لا يعلم عنه أحد على وجه الدقة في ظل حالة الحصار الأمني المفروضة عليها.
وتبدو ممارسات الاحتلال إلى جانب الشروط المعلنة تمهّد لما يشبه ضمّ هذه المناطق، وإعادة تعريف سكانها كمقيمين بلا حقوق لجوء.
وحسب صحف عبرية فإن إسرائيل مستعدة للسماح بعودة سكان المخيمات الفلسطينية شمال الضفة بعد كل ما فعلته بها من إعادة فك وتركيب وهندسة وفق خمسة شروط، وهو ما يجري التفاوض بشأنه مع السلطة الفلسطينية حول السيطرة على المخيمات.
الشرط الرئيسي هو أن تمنع السلطة الفلسطينية دخول منظمات الإغاثة الدولية إلى مخيمات اللاجئين، وأن تُقدّم جميع الخدمات للسكان بنفسها. أما الشروط الإضافية التي تضعها إسرائيل، فهي أن عودة السكان سيُسمح بها فقط بعد أن يُكمل جيش الاحتلال الإسرائيلي إعادة تشكيل المنطقة، كما أن شق الطرق سيتم بالتنسيق الكامل مع الجيش، وستكون السلطة الفلسطينية ملزمة بإقامة حواجز ومحطات شرطة لمنع دخول عناصر تصنفها إسرائيل «إرهابية» إلى المخيّمات، وأن تقام البنية التحتية للكهرباء والمياه تحت الأرض.
وتبدو الشروط الخمسة التي يمكن تلخيصها في عدم عودة خدمات الأونروا، وتغيير تسمية المخيمات بوصفها محطّات لجوء واستبدال ذلك بدمجها إداريًا كأحياء ضمن البلديات المحيطة، واشتراط إجراء «فحص أمني دقيق» لكل من سيُسمح له بالعودة، والالتزام بتصور هندسي تخطيطي جديدًا تلتزم به السلطة الفلسطينية ومنع العودة إلى البيوت المهدّمة نهائيًا وهو ما يعني عمل السلطة على «إعادة توطين» قرابة 50 في المئة من سكّان المخيمات خارجها بشكلٍ دائم، تدلل هذه الشروط إلى أن المسعى الإسرائيلي الإستراتيجي تفكيك المخيم فعليًا، ليس على مستوى الحيّز المكاني فقط، وإنما على المستوى الرمزي والسياسي.
وكانت منظمة «هيومن رايتس ووتش»، قد قالت في تشرين الثاني/نوفمبر الماضي، إنّ إبعاد إسرائيل لعشرات الآلاف من الفلسطينيين من ثلاثة مخيمات للاجئين في الضفة الغربية في أوائل عام 2025، يصل إلى حدّ جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية، داعية إلى اتخاذ تدابير دولية عاجلة لمحاسبة المسؤولين الإسرائيليين ومنع حدوث المزيد من الانتهاكات.
وذكرت المنظمة الحقوقية أنّ القوات الإسرائيلية أبعدت قسراً نحو 32 ألفاً من سكان مخيمات جنين وطولكرم ونور شمس خلال «عملية السور الحديدي» في كانون الثاني/يناير وشباط/فبراير. وأضافت في تقرير، صدر في 105 صفحات بعنوان «محيت كل أحلامي»، أنّ النازحين مُنعوا من العودة وهُدمت مئات المنازل.
في سياق قراءة هذه السياسات التي تستهدف المخيمات بشكل عام ومخيمات شمال الضفة بشكل خاص قدم المركز الفلسطيني للدراسات الإسرائيلية «مدار» قراءة للأهداف الإسرائيلية الإستراتيجية غير المعلنة لعمليات هدم المخيمات في الضفة الغربية. وقال المركز إن رغم أن إجراءات الاحتلال والتهجير للمخيمات الفلسطينية في الضفة الغربية المحتلة، تؤطّر ضمن مسوغات «ضرورة أمنية-عسكرية»، غير أن الهدف الإستراتيجي غير المعلن يتمثّل في إعادة هندسة الحيّز الفلسطيني بما يتناسب مع «المفهوم/التصور» الإسرائيلي الجديد لواقع الضفة الغربية بعد 7 أكتوبر 2023، وما أنتجه من تحولات في علاقة إسرائيل- المسألة الفلسطينية.
تقرير «مدار» الأخير ركّز على البعد السياسي للهدم الذي تشهده مخيمات شمال الضفة الغربية: جنين، طولكرم ونور شمس، باعتبارها عملية تدمير ومحو ممنهجة تتجاوز الأهداف «العسكرية-الأمنية» الإسرائيلية المُعلنة، وفهمها في ضوء «التصوّر» الجديد لمستقبل الضفة الغربية من وجهة نظر إسرائيل، وذلك بالاستناد إلى المصادر الإسرائيلية.
وتمسّ بشكل جوهري المخيم كحيّز مكاني ورمزي وإحالاته في سردية الصراع: النكبة، المقاومة والعودة، بما في ذلك دور وكالة غوث وتشغيل اللاجئين- الأونروا، وهو ما تسعى إسرائيل لتحقيقه مستفيدةً من الظروف الناشئة منذ بدء حرب الإبادة.
لقد انتقل الجيش إلى الجانب الهندسي والتخطيطي، حيث تم الكشف عن مخطط منهجي لتحويل المخيمات إلى أحياء عادية داخل المدن، وبموجبه، سيتم منع إعادة بناء أي منزل أو حيّ تم تدميره خلال العملية، والإبقاء على الطرق مفتوحة وعدم السماح بإعادة تضييقها مستقبلاً.
وبحسب «مدار» فإن مراكز الأبحاث الإسرائيلية ومنها «منتدى كوهيلت» قدمت مجموعة من التصورات الإسرائيلية لمستقبل القضية الفلسطينية وكان أحدها مرتبطا بوجود الأونروا والمخيمات، حيث روجت لفكرة أن وجود الوكالة الدولية وصفة المخيم ولمخيمات تُبقي «على سردية حقّ العودة حيّة في الوعي الجمعي الفلسطيني والدولي، ويمنح الفلسطينيين ورقة ضغط سياسية وأخلاقية ضد إسرائيل".
ويبدو أن جل ما تفعله دولة الاحتلال على الأرض ترجمة ميدانية لهذه الدراسات، في عموم الضفة، وفي القدس خاصة.
وخلال الفترة الماضية، صادق الكنيست بالقراءة الأولى على مشروع تعديل قانون يمهد لقطع الكهرباء والماء عن مكاتب الأونروا ومنشآتها بشكل كامل ويهدف لمنح السلطات الإسرائيلية صلاحيات واسعة للسيطرة على أراضٍ مسجلة لدى «سلطة الأراضي» تستخدم حاليًا من قبل الوكالة الدولية (والحديث هنا، وحتى اللحظة، يدور حول حضور وتواجد الاونروا في الضفة الغربية والقدس).
وحسب الخبير في وكالة الأونروا سامي مشعشع، فإن هذه الخطوة تكشف انتقال إسرائيل من سياسات الضغط السياسي والمالي إلى إجراءات قانونية مباشرة تهدد قدرة الوكالة على تنفيذ ولايتها.
وتابع مشعشع: «هذا التشريع لا يطال الخدمات فقط، بل يمسّ صميم حصانات وامتيازات الأمم المتحدة المنصوص عليها في اتفاقية 1946، ويخلق سابقة خطيرة في التعامل مع مؤسسة أممية ما زالت تؤدي دورًا مركزيًا في حماية اللاجئين الفلسطينيين".
وشدد على أن المفارقة تتمثل في أن هذا التصعيد جاء بعد أيام من تجديد الجمعية العامة للأمم المتحدة ولاية الأونروا لثلاث سنوات إضافية، وهو تجديد يؤكد اعتراف المجتمع الدولي بالدور الحيوي للوكالة، لكنه لا يغيّر من حقيقة الهجمة المركزة التي تتعرض لها. فالتجديد لا يحصّن الأونروا من التجويع المالي المتعمد، ولا من محاولات تقليص التفويض، ولا من القيود التي تُفرض على عملها في الضفة الغربية وقطاع غزة بعد عملية إقصائها الممنهج من القدس. ما يجري هو عمليًا تحويل التجديد الأممي إلى إجراء رمزي لا يملك قوة لحماية الوكالة على الأرض.
مشهد مواز صنعه الاحتلال في مدينة القدس المحتلة حيث اقتحم مقر الأونروا ورفع العلم الإسرائيلي بدلا من العلم الأممي، وهو أمر لم يوقفه أي من الإدانات الدولية والعربية والفلسطينية.
وصف الخبير الأممي مشعشع المشهد بإنه «وجعٌ صافٍ، تختصر خسارة لا تُحتمل. هنا كان قلب الأونروا النابض في القدس؛ مقرٌ حمل معركة 1967 وشهداءها، واحتوى مكتب المفوض العام، وأدار عمليات الوكالة في القدس والضفة، ووفّر لغزة احتياجاتها لسنوات. ثلاثون عاماً قضيتها بين جدرانه ناطقاً رسمياً، ومديراً للاتصالات، ومشرفاً لمكاتب الإعلام، وعضواً فى طاقم الطوارئ… تتحول فى لحظة إلى جرح».
وتابع تعقيبه على المشهد: «وقف الاحتلال على السطح ذاته، يرفع علمه مكان علم الأمم المتحدة الذى ظل مرفوعاً 75 عاماً. مرارةٌ خالصة وهزيمة بطعم العلقم. المقر أُفرغ قسراً، مخيمات شمال الضفة خاوية، أربعون ألف مشرَّد، وخدمات الأونروا فى القدس انتهت، ودورها فى غزة يُمحى، والكيان يشترط دفن الوكالة وحق العودة وشطب صفة لاجئ"
وعقب على ردود الأفعال: «مجتمع دولي يكتفي بالاجتماعات والبيانات، أداءٌ باهت يعجز عن حماية مؤسسة أممية تُهان أمام سطوة الاحتلال، فالصورة ليست مجرد رفع علم… إنها محاولة محو تاريخ وشطب قضية وكسر إرادة شعب".
ولا تتوقف عمليات التهجير على مخيمات شمال الضفة، فقد أعلنت الأمم المتحدة في أحدث بياناتها عن تهجير أكثر من ألف فلسطيني منذ مطلع العام الجاري في المنطقة التي يصنفها الاحتلال (ج)، بالضفة الغربية المحتلة.
واستنادًا إلى بيانات أممية، قال فرحان حق، نائب متحدث الأمين العام للأمم المتحدة، إنه «منذ بداية العام، تم تهجير أكثر من ألف شخص في المنطقة (ج) التي تشكل حوالي 60 في المئة من الضفة الغربية، وهي منطقة تحتكر فيها إسرائيل تقريبًا سلطة إنفاذ القانون والتخطيط والبناء".
وأوضح أن معظم الفلسطينيين الذين جرى تهجيرهم هدمت منازلهم بحجة عدم امتلاكهم تراخيص بناء، وهي تراخيص من شبه المستحيل حصول الفلسطينيين عليها.
وأشار المتحدث الأممي إلى أن هذا المستوى من التهجير يمثل «ثاني أعلى معدل سنوي» يسجل منذ عام 2009.
وفي المقابل، كشف تقرير صادر عن الأمين العام للأمم المتحدة أن التوسع الاستيطاني الإسرائيلي في الضفة الغربية المحتلة بلغ مستوى قياسيا خلال عام 2025، هو الأعلى منذ بدء الأمم المتحدة مراقبة هذه الظاهرة بشكل منهجي عام 2017.
وفي مواجهة هذا المشهد يبرز غياب خطة فلسطينية محكمة لمواجهة الواقع المفروض بحسب الخبير في الوكالات الدولية سامي مشعشع، ويضيف: «كما يبرز غياب موقف حازم من المفوض العام للأونروا والأمين العام للأمم المتحدة. فبينما تتعرض الوكالة لهجمة وجودية، يكتفي المسؤولان الأمميان بخطاب دبلوماسي باهت لا يرتقي إلى مستوى التهديد الذي يطال مؤسسة أنشأتها الأمم المتحدة نفسها لحماية اللاجئين".
ويتابع: «يجد الفلسطيني نفسه اليوم في واقع خانق يُعاد ترتيبه من دون ان يكون له القول الفصل، فيما الخيارات تتآكل والأدوات القانونية والسياسية تُصادر واحدة تلو الأخرى".
ويخلص إلى أن الفلسطيني يغدو أشبه بمن يقف «بانتظار غودو»؛ ينتظر حلاً سحريًا أو معجزة توقف الانهيار، بينما المطلوب، وبإلحاح، هو أخذ الأمور بنواصيها قبل أن يتحول الانتظار إلى غرق كامل في جوف مشروع يبتغى اعادة هندسة وجودنا ومستقبلنا كفلسطينيين.
أحد النشطاء في مدينة جنين يقول إنه «يتفهم» الممارسات الاحتلالية الإسرائيلية في المخيمات، إنها دولة احتلال ولديها رؤية وتريد تطبيقها، لكنه لا يفهم غياب أي فاعلية للمواجهة السياسية والميدانية.
ويتابع الناشط الذي رفض ذكر اسمه: «لماذا لا تتم مهاجمة الشاحنات التي تدخل مواد تعبيد الشوارع داخل المخيم؟ لماذا لا يتم حشد اللاجئين في الميدان للدفاع عن أحلامهم وذكرياتهم؟ لماذا تغيب أي فاعلية لأي من القوى السياسية؟".
وختم قائلا: «اقتربت العملية العسكرية من نهايتها كما يدعي الاحتلال، والموقف يمكن تلخيصه بالانتظار، انتظار ماذا؟ التفاوض على شروط الاحتلال التي يفرضها قولا وفعلا».