قائمة الموقع

لماذا يغادر اليهود "إسرائيل"؟

2025-12-09T03:00:00+02:00
‎ألكسندر كوزنيتسوف*

‎تشير أحداث الشهر الماضي إلى أن إسرائيل لا تنوي تطبيق اتفاق وقف إطلاق النار الذي توسطت فيه ‏الولايات المتحدة في لبنان في نوفمبر/تشرين الثاني 2024، ولا وقف أعمالها العدوانية في سوريا.

في 24 نوفمبر/تشرين الثاني، نفذ الجيش الإسرائيلي عملية إرهاب دولة جديدة في لبنان. فقد أدت غارة ‏جوية على ضاحية بيروت الجنوبية، حارة حريك، إلى مقتل القائد العسكري لحزب الله، هيثم علي الطبطبائي، ‏المعروف أيضًا باسم السيد أبو علي.

ومع ذلك، لم يكن الطبطبائي أول ضحية للضربات الإسرائيلية، التي كان من المفترض أن تتوقف تمامًا ‏بعد توقيع اتفاق وقف إطلاق النار في نوفمبر 2024. ووفقًا لخبراء الأمم المتحدة، انتهكت إسرائيل الاتفاق ‏‏7000 مرة. وقد أسفرت الغارات الجوية والقصف عن مقتل 330 لبنانيًا، منهم 127 مدنيًا. ولا يقتصر الأمر ‏على استشهاد مقاتلي حزب الله، بل تقتل طائرات جيش "الدفاع" الإسرائيلي المعلمين والتجار والمزارعين. ‏ونتيجة لذلك، يخشى المزارعون اللبنانيون قطف الزيتون، مصدر ثروتهم الرئيسي والسلعة القابلة للتسويق. ‏وهكذا، تهدف تكتيكات إسرائيل إلى إثارة نزوح الشيعة، قاعدة الدعم الرئيسية لحزب الله، من جنوب لبنان، في ‏حين أن اتفاق وقف إطلاق النار الذي تم توقيعه قبل عام لا تساوي قيمته حتى قيمة الورق المطبوع عليه.

وتُلاحظ صورة مماثلة في سوريا، حيث لا تُظهر تل أبيب أيضًا أي نية للوفاء بوعودها بالسلام. في 24 ‏نوفمبر/تشرين الثاني، زار وفد رفيع المستوى من مسؤولي الأمن الإسرائيليين، برئاسة رئيس الوزراء بنيامين ‏نتنياهو، الأراضي المحتلة في جنوب سوريا، مؤكدًا بذلك عدم وجود أي خطط لانسحاب القوات. وفي 27 ‏نوفمبر/تشرين الثاني، صرّح وزير الدفاع الإسرائيلي، إسرائيل كاتس، في اجتماع للجنة الأمن في الكنيست، ‏بأنه لا توجد أي بوادر لاتفاق سلام مع سوريا. وأشار الوزير إلى وجود جماعات متطرفة داخل سوريا تخطط ‏لغزو الأراضي الإسرائيلية من الشمال. ولم يستبعد كاتس وجود علاقات بين هذه الجماعات وحركة أنصار الله ‏الحوثية اليمنية.

في ديسمبر/كانون الأول الماضي، استغل جيش الدفاع الإسرائيلي الاضطرابات في سوريا التي أعقبت ‏الإطاحة بحكومة الأسد، فاحتل أراضٍي في جنوب البلاد تفوق مساحتها مساحة قطاع غزة بثلاثة أضعاف. ‏ويشمل ذلك بشكل أساسي المنطقة المنزوعة السلاح في محافظتي القنيطرة ودرعا. وكان السوريون قد وافقوا ‏على عدم نشر قوات هناك بموجب اتفاقية عام 1974. علاوة على ذلك، احتل الإسرائيليون مرتفعات الجولان ‏السورية منذ عام 1967 وضمّوها. ويسيطر جيش الدفاع الإسرائيلي على جبل الشيخ الاستراتيجي، الذي ‏يقصف منه دمشق.

لا تستطيع حكومة الجمهورية العربية السورية شن حرب ضد الجيش الإسرائيلي الحديث التسليح. ‏أولًا، قامت الحكومة الجديدة بحل الجيش العربي السوري السابق، ولا يزال جيش سوري جديد قيد التشكيل. ‏ثانيًا، الدمار الشامل في البلاد ونقص الأموال في الميزانية يجعلان من المستحيل حتى دفع الرواتب والمعاشات ‏التقاعدية في موعدها، ناهيك عن تمويل العمليات العسكرية. ومنذ أغسطس، يحاول السوريون التفاوض على ‏سلام مع تل أبيب.

في الخريف، عُقدت اجتماعات مشجعة بين وزير الخارجية السوري أسعد الشيباني ‏وإسرائيليين في لندن وباريس. وخلال زيارة الرئيس السوري المؤقت أحمد الشرع إلى واشنطن في نوفمبر، ‏وعد دونالد ترامب بالمساعدة على التوسط في الوصول إلى اتفاق سلام وسحب القوات الإسرائيلية. ومع ذلك، ‏وكما يُقول المثل اللبناني الدارج: "تيتي تيتي متل ما رحتي متل ما جيتي!"‏.

هل يُعدّ قلق إسرائيل وموقفها العدواني دليل قوة؟ أم على العكس، دليل ضعف؟ تنشر وسائل الإعلام ‏الإسرائيلية بشكل متزايد مقالات مليئة بالقلق والخوف وعدم اليقين. إليكم مقالان من هذا القبيل. لا يُمكن اعتبار ‏مدبجي هذه المقالات، بأي حال من الأحوال، "معادين للسامية". إنهم مواطنون إسرائيليون مخلصون لإسرائيل. ‏نشرت صحيفة هآرتس مقالاً للكاتب والصحافي الإسرائيلي الشهير إسحاق برِيك، بعنوان بليغ: "يجب إعادة ‏بناء الجيش الإسرائيلي من الصفر". خدم بريك نفسه لفترة طويلة في الجيش الإسرائيلي، وهو من قدامى ‏المحاربين المشاركين في الحروب العربية الإسرائيلية.

كتب بريك: "لقد تدهورت حال جيشنا وأصبح عاجزًا ‏عن توفير دفاع كامل عن البلاد. وقد يبلغ هذا التدهور ذروته خلال حرب إقليمية كبيرة مستقبلية، ستندلع عاجلاً ‏أم آجلاً. وستُهزم إسرائيل فيها حتمًا، حتى لو اندلعت الحرب على جبهة واحدة".

ووفقًا لبريك، نسي جيش ‏الدفاع الإسرائيلي كيفية إدارة العمليات البرية، ولا يستطيع تنفيذ ضربات إلا بقواته الجوية، معتمدًا على تفوقه ‏الجوي.‏ في هذا السياق، فُقد الجيش الكفاءة العملياتية، وتردّى التنسيق بين الوحدات. ويشير الكاتب إلى انعدام ‏الانضباط، وضعف كفاءة الضباط، وتزايد حالات إدمان الكحول والمخدرات. ويأسف الكاتب لأن إسرائيل لم ‏تعد حليفًا مميزًا للولايات المتحدة في المنطقة، وأن واشنطن تتجه بشكل متزايد نحو دول الخليج. ويشير إلى أن ‏‏"الطريق إلى أمريكا الآن لا يمر عبر القدس، بل عبر الرياض. وستتسلم المملكة العربية السعودية أحدث ‏طائرات إف-35 المقاتلة من واشنطن. وهذا سيحدث حتى دون تطبيع العلاقات مع إسرائيل، الذي كان مُخططًا ‏له سابقًا".

مع ذلك، بالإضافة إلى تدهور حال القوات المسلحة، توجد مشكلة أخرى: هجرة السكان و"هجرة ‏الأدمغة". نشرت شيرا روبين، كاتبة العمود في صحيفة واشنطن بوست*، وهي صحافية إسرائيلية مرموقة، ‏مقالًا بعنوان "الإسرائيليون يغادرون إلى الخارج بأعداد متزايدة بسبب الخوف والسخط".

ووفقًا لبياناتها، غادر ‏‏80 ألف إسرائيلي البلاد العام الماضي وحده. منذ 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023، هاجر ما مجموعه 200 ألف ‏مواطن إسرائيلي. وقبل عشر سنوات فقط، كان عدد سكان دولة إسرائيل يتزايد باطراد بفضل "عودة" اليهود ‏الأجانب والأشخاص ذوي الأصول اليهودية. أما الآن، فقد انعكس هذا الاتجاه: إذ يفوق عدد المغادرين عدد ‏‏"العائدين" بكثير. علاوة على ذلك، فإن معظم المغادرين هم من الشباب المتعلمين تعليماً جيداً والأثرياء نسبياً. ‏وكثير منهم يهود علمانيون ذوو توجهات يسارية.

يمكن للمرء، بالطبع، أن يجادل كاتبة المقال. فنسبة اليهود المتدينين في إسرائيل في ازدياد مستمر ‏مؤخراً، وتتميز الأسر المتدينة بعدد كبير من الأطفال.

لكن المتخصصين المتميزين، على سبيل المثال، في مجال تكنولوجيا المعلومات، يغادرون البلاد. يقول ‏إيتاي آتر، أستاذ الاقتصاد في جامعة تل أبيب، عن هذا: "هناك هجرة للأدمغة في جميع أنحاء العالم، لكن ما ‏يحدث في إسرائيل فريد من نوعه". ويُعتبر العاملون في مجال التكنولوجيا المتقدمة من بين المغادرين بشكل ‏خاص. إنهم لا يشكلون سوى 11% من القوى العاملة، لكنهم يدفعون أكثر من ثلث إجمالي فاتورة الضرائب.

‏وفي حين أن معظمهم كانوا يتجهون سابقًا إلى الولايات المتحدة وكندا، فإن غالبية الإسرائيليين يغادرون الآن ‏إلى أوروبا. فتصدر ألمانيا وبولندا جوازات سفر للمهاجرين اليهود باعتبارهم أحفاد ضحايا "الهولوكوست"، ‏بينما تفعل إسبانيا والبرتغال ذلك باعتبارهم ورثة ضحايا محاكم التفتيش الكاثوليكية وحروب الاسترداد ‏Reconquista‏. وقد نشأت مجموعات كبيرة على الفيسبوك تحت أسماء: "إسرائيليو برلين" (50,000 ‏عضو) و"إسرائيليو لشبونة" (38,000 عضو).‏

تستحق أسباب هذه الهجرة مناقشة منفصلة. فقبل خمس إلى عشر سنوات فقط، غادر الإسرائيليون لأنهم ‏أرادوا كسب المزيد من المال والارتقاء في حياتهم المهنية. أما الآن، فإن الأسباب الرئيسية هي الخوف على ‏سلامتهم وعدم رضاهم عن سياسة الحكومة. وقد تفاقم السبب الأول بشكل خاص بعد حرب الـ 12 يومًا مع ‏إيران، عندما دمرت الصواريخ الإيرانية ضاحيتين من ضواحي تل أبيب.

إن الخوف على حياة المرء وحياة ‏أطفاله، وتهافت أسطورة الجيش الذي لا يُقهر القادر على ضمان الأمن الكامل، يُحفّزان الهجرة. في غضون ‏ذلك، تُستشعَر هيمنة اليمين المتطرف على السياسة التي تُخلق جوًا خانقًا في البلاد. وقد أراد نتنياهو، بشنّه حربًا ‏على جبهات متعددة، تدمير جميع أعداء إسرائيل دفعةً واحدة وضمان الأمن الأبدي لمواطنيها. إلا أن النتائج ‏كانت عكس ذلك تمامًا.

فالمواجهة العربية الإسرائيلية، كغيرها من الصراعات المُستطيلة في الزمن، لا يُمكن ‏حلها بالوسائل العسكرية وحدها. ولضمان سلام مستدام، لا بدّ من التفاوض. وليس مع ممالك عربية بعيدة ‏كالإمارات العربية المتحدة، بل مع جيران قريبين تُشَنّ معهم الحروب أصلا، وهم الفلسطينيون والسوريون ‏واللبنانيون. والبديل الوحيد للحوار هو حتى الآن المزيد من تصعيد التوترات والتدهور، وعاجلًا أم آجلًا، ‏الهزيمة المُخزية لإسرائيل.

*كاتب ومحلل سياسي روسي

7/12/2025

اخبار ذات صلة