/مقالات/ عرض الخبر

حرب الإبادة ونهاية الكيان الصهيوني

2025/11/19 الساعة 12:52 م

راغدة عسيران

اعتبر عدد من السياسيين والباحثين أن معركة طوفان الأقصى أدخلت الكيان الاستيطاني الصهيوني في طريق الزوال. أولا بسبب الضربة التي وجهتها له المقاومة الفلسطينية في يوم السابع من أكتوبر 2023، التي هزّت أركانه الأمنية، والعسكرية والنفسية، وثانيا، بسبب الارتدادات الداخلية والخارجية لحرب الإبادة التي شنّها على قطاع غزة، أي تفاقم الخلافات الداخلية بين مختلف تيارات الصهيونية وتفسّخ مجتمع المستوطنين، من جهة، وعدم تحقيق "الانتصار المطلق" على المقاومة الذي وعدت به حكومته، والعزلة الدولية التي يعاني منها بسبب انفلات توحّشه أمام كاميرات العالم من جهة أخرى.

لقد ركزّ بعضهم على الأزمة الاقتصادية والبعض الآخر على الأزمة الأخلاقية، التي تجلّت في كل شرائح هذا المجتمع، من الأطباء الى الأساتذة الجامعيين والصحافيين، الفقراء منهم والأغنياء، الغربيين والشرقيين على حد سواء.

اعتبر آخرون أن هذا التفاؤل المفرط لا يستند الى الواقع ومبالغ فيه، حيث ما زال الكيان الاستيطاني يشنّ هجوما على الشعب الفلسطيني وشعوب المنطقة، ويحتل مناطق عربية ويقتل ويدمّر ويهدّد بالمزيد، بسبب الدعم الغربي له، الذي لم يتوقف رغم كل الجرائم التي ارتكبها ويرتكبها الى الآن. كما يعتبرون أننا دخلنا بعد السابع من أكتوبر في "العصر الأمريكي-الصهيوني" الذي يعني إخضاع كل المنطقة العربية للهيمنة الخارجية، وانتهى عصر القيم الإنسانية والأخلاق المفترضة في العلاقات الدولية، لتحل مكانها المصلحة، التي تبرّر علاقات دول عربية وإسلامية مع كيان استيطاني متوحش ومجرم.

من زاوية مختلفة تماما، وبعيدا عن الواقع العربي والإسلامي، يناقش الكاتب لورنزو فراسيني، في مقال صدر مؤخرا (أيار 2025)، بعنوان: "الإبادة في غزة ونهاية الاستعمار الاستيطاني"، الباحثين الذين ألحقوا جريمة الإبادة بالاستعمار الاستيطاني كأحدى تجلياته القصوى. على عكس هؤلاء، يرى فراسيني أن جريمة الإبادة تعني فشل الاستعمار الاستيطاني ونهايته. يستند لتأكيد اطروحته على المقارنة مع حالات الاستعمار الاستيطاني في العالم، وهو من أهم منظّري حقل الدراسات حول هذا الموضوع، وأحد مؤسسيه. فكتب "لا أرى في الإبادة ذروة الاستعمار الاستيطاني، بل رحيلا تأسيسيا" (للمستوطنة) و"تقع الإبادة عندما يفشل الاستعمار الاستيطاني".

ينطلق الكاتب من عدة مسائل لإثبات اطروحته (نهاية الكيان الصهيوني).

أولا : في حالات الاستعمار الاستيطاني (أميركا، نيوزلندا، أستراليا، إفريقيا الجنوبية)، ارتكب المستوطنون جريمة الإبادة بحق الشعوب الأصلانية في بداية استيطانهم، لترسيخ وجود المستوطنة، كما حصل خلال النكبة الفلسطينية (1948)، لأن هذا النمط من الاستيطان المبني على العنف يتطلب المحو والإبعاد، أي استخدام الإبادة كأداة للإبعاد. لكن، وبعد تمكين ركائز الكيان الاستيطاني على حساب الشعوب الأصلانية، تم العمل على استيعابها والاعتراف بوجودها وببعض حقوقها (ضمن حدود لا تمس جوهر الكيان الاستيطاني). فيكتب أن "أقوى الأنظمة الاستعمارية الاستيطانية لا تحتاج الى ارتكاب جرائم الإبادة"، لأن لديها بدائل أكثر استقرارا، كالاعتراف ببعض الحقوق والإدماج النسبي والإخضاع لسيادتها.

أنهت حرب الإبادة على قطاع غزة إمكانية استمرار الاستعمار الاستيطاني وتعطلت إمكانية إدماج الشرائح المختلفة التي تعيش تحت الحكم "الإسرائيلي"، وهي السياسة التي تبنّاها الكيان الاستيطاني خلال عقود من الزمن، حتى فشل مسار أوسلو، الذي لم يتم استبداله بمسار آخر. فمسار أوسلو، وفقا لفراسيني، مثّل "الحلّ في سياق الاستعمار الاستيطاني".

وهنا افترق طريق المستوطنة الصهيونية عن طريق المستوطنات الأخرى. أمام الفشل الاستراتيجي للخيار الاستعماري المتمثل بمسار أوسلو، انطلق العنف الاستيطاني المدعوم ب"تخيلات إبادية"، الخيار الوحيد المتبقي امام المستوطنين. فيستنتج أن "نظام استعماري استيطاني يعود الى أصله الإجرامي ويتخلى عن الأنماط البنيوية للإخضاع يقوم بتدمير نفسه".

ثانيا : يعاني الكيان الاستيطاني من عدة أزمات داخلية، منها سياسية ومنها اقتصادية، وسبق بعضها حرب الإبادة، ووصل الأمر الى أزمة الهوية: من هو الصهيوني الجيّد اليوم؟ يركّز الكاتب على الاقتصاد، وخاصة أنه كان قد انتقد سابقا منح جائزة نوبل لمؤرخين اقتصاديين مجّدوا بالبنية الاقتصادية في المستعمرات الاستيطانية، كونها شاملة تتيح إمكانية التطور الاقتصادي المستمر. لقد اتبع الكيان الاستيطاني هذا النموذج لعقود، لكن اختفت بعض العناصر الضرورية فيه بعد حرب الإبادة والهجوم على الضفة الغربية. "قد تعتبر إسرائيل نفسها سبارطة الجديدة، لكن اقتصادها قيد الانكماش"، ولا يمكن العودة الى الوراء بسبب "تآكل معاير الديمقراطية وانتشار الفساد".

ثالثا : تسارع الهجرة اليهودية المعاكسة في حين شهد الكيان الاستيطاني في بداياته، كالمستوطنات الأخرى، "انفجارا" ديمغرافيا استيطانيا. لكن، وخلال العقود الأخيرة، "لم يتمكن الكيان من استقطاب مهاجرين جدد، واليوم، اختار العديد منهم الرحيل. قد لا نتمكن من تعدادهم، لكن بات عدد المغادرين أكثر من القادمين" و"أصبحت "إسرائيل" دولة نزوح"  لا دولة تستقطب المهاجرين. فسرّعت حرب الإبادة على غزة هذا التوجّه. أراد الصهاينة تقديم حياة في الكيان أفضل من الحياة في الشتات اليهودي، لكن هذا الأخير مزدهر اليوم وبدأ يتشكّل شتات "إسرائيلي". قد لا يفصح "الإسرائيلي" اليوم ان كان قراره بالنزوح نهائي أم لا، لكن أصبح مركز حياته خارج الكيان. ومهما تفعل الحكومة الإسرائيلية الآن لتغيير هذا المسار، لم تغيّر شيئا، لقد "أصيب المجتمع الاستيطاني بصدمة في الصميم".

رابعا : اتبع الكيان الصهيوني النموذج الكلاسيكي للاستعمار الاستيطاني من ناحية علاقته مع الدول المساندة له، فأعلن استقلاله عن الدولة أو الدول المؤسسة له (كالمستعمرة الأميركية) وبنى نوعا من الاستقلالية في قراراته وحياته بين الدول. فأصبح له مكانة في المجتمع الدولي كدولة مستقلة (انضمامه الى بعض المنظمات الدولية، علاقاته المتنوعة مع دول كثيرة، الخ..). لكن اليوم، لم يعد يستطيع البقاء دون ضخ المساعدات والدعم في كل المجالات، لقد فقد استقلاله كمستعمرة استيطانية. "لقد تعتمد "إسرائيل" اليوم على الغطاء الديبلوماسي والاستراتيجي أكثر من أي وقت مضى. ذلك الاعتماد يشكّل نوعا من "العودة الى الاستعمار"، الذي سيضع الكيان في مخاطرة كبيرة." هناك مؤشرات الى أن هيمنة الحلفاء الاستراتيجيين في طريقها للانحدار، والنظر اليوم الى المناطق التي يسيطر عليها الكيان الصهيوني قد يكون مضللا، حيث أن القوة العسكرية لا تضمن البقاء.

لهذه الأسباب، يستنتج الكاتب، رغم أن عنف الاستعمار الاستيطاني هو بحد ذاته عنفا بنيويا وليس طارئا، أن جريمة الإبادة التي ارتكبها الكيان الصهيوني تؤشر الى نهايته وليست مرحلة في حياته. خلافا لنظام الأبارتايد الذي يلغي الشعب الأصلاني من فضائه، يلغي الاستعمار الشعب الأصلاني من فضائه وزمانه. فتجاوز فلسطينيو غزة لزمانه وفضائه في معركة طوفان الأقصى لضمان مستقبلهم، رغم الحصار، ما أدى الى الصدمة المميتة التي يعاني منها كيان العدو.

رابط مختصرhttps://alqudsnews.net/p/221257

اقرأ أيضا