قائمة الموقع

الأسير المحرّر كميل أبو حنيش: أمامنا شوط كبير في المقاومة*

2025-11-18T10:52:00+02:00
خليل كوثراني

يضيء كميل أبو حنيش على ولادة الحرّية بعد 23 عاماً من الأسر، وتمسّك المقاومة بحقّها، وقراءة صلبة لأزمة الكيان الصهيوني ومصير النضال الفلسطيني.

***

مرّ كميل أبو حنيش بأغلب أطوار الحياة الفلسطينية، أو بالأحرى أطوار محاولات الحياة؛ فهو الجريح والمطارَد والمقاتل والسجين... والآن: المبعَد/المنفي. الحديث مع كميل لا بدّ من أن يبدأ من إصابته قبل الأسر: يطلب من محدّثه رفع صوته ليسمعه جيداً، إذ لا يزال سمعه متضرراً من جراء محاولة اغتيال بسيارة مفخخة طالته ومجموعة من رفاقه في «الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين».

لا تنجح معظم المحاولات لتبيُّن الحديث جيّداً، فيتّصل بشقيقه كمال، الذي طال فراقه معه، طالباً منه إحضار السماعات الخاصة. «أعطونا فور وصولنا إلى رفح المصرية هذا الجهاز (الهاتف الذكي) الأشبه بفانوس سحري ترى العالم كلّه عليه»، يقول؛ فكميل، كما حال كثير ممّن أفرج عنهم في صفقات التبادل من أصحاب المدد الطويلة، غادروا «عالمنا» قبل 20 عاماً، أي قبل انتشار الهواتف الذكية. إنها أشبه برحلة عبر الزمن. مع دهشة الحرّية أيضاً، دهشة خاصة بالأسير الكاتب، مردّها أن يرى مؤلفاته مطبوعة ومنشورة بين يديه؛ «تُمسك بالكتاب كأنه أول لقاء لك بواحد من أطفالك». يسأل بلهفة عن تفاصيل المقاومة اللبنانية وأحوالها، بعدما حالت الإجراءات القمعية غير المسبوقة في السجون دون متابعة الأسرى لما يجري في العالم الخارجي، ثمّ يصرّ على الاستنتاج، وهو الدارس للشأن الإسرائيلي وتجارب حركات التحرّر، أن المقاومات الشعبية عصيّة على الإنهاء، مستذكراً كيف تابع الأسرى بحماسة مجريات حرب 2006.

يتمتّع كميل بحيوية وروح متمرّدة وحس نقدي وقراءة جريئة للمشهد السياسي على أساس معرفي. كميل أبو حنيش (مواليد 1975)، الرائد في الحركة الأسيرة، وعضو المكتب السياسي لـ«الجبهة الشعبية»، قضى 23 عاماً في الأسر وحُكم بـ9 مؤبدات بتهم تتعلق بالانتماء إلى «كتائب الشهيد أبو علي مصطفى» وقتل إسرائيليين، ملأ أغلبها بمؤلفات ودراسات سياسية وأدبية، منها: «إسرائيل دولة بلا هوية»، «مع فرناندو بيسوا: قراءة نقديّة في كتاب اللاطمأنينة»، و«الكتابة والسجن»، وسيتبعها، كما يقول لـ«الأخبار»، كتاب جديد حول تجربة الحرّية.

خرج في آخر صفقات التبادل، مبعَداً إلى مصر، حيث تتحكّم في حركته ورفاقه الأسرى المفرج عنهم إجراءات حذرة، خاصة بعد أن تسلّل صحافيون أجانب متصهينون إلى فندق الماريوت في منطقة التجمع في العاصمة المصرية، ثمّ نشروا، ضمن تقرير عدائي في «ديلي ميل» البريطانية السيئة السمعة، صوراً من هناك للأسرى المفرج عنهم.

في هذا الحوار مع «الأخبار»، يتحدّث أبو حنيش عن لحظة الحرّية وتجربة الإبعاد وقراءته للمشهدين الفلسطيني و"الإسرائيلي".

بعد 23 عاماً من الأسر، كيف تصف عالمك الجديد؟

إنه أشبه بالولادة الجديدة. لا شيء يعادل الحرّية سوى الحياة. لأن الحرّية هي الحياة الحقيقية. أمّا الحياة في السجن، فهي تشبه الموت، أو مجازه. ومن هنا، حرّيتي، بعد هذه السنوات، تشبه الولادة الثانية، حيث امتلكني إحساس بأن سنوات القهر والألم والانتظار تلاشت مع أول خطوة خطوتها في عالم الحرّية. أجل. كنت منتشياً بحريتي في الأيام الأولى إلى الحد الذي خيّل إليّ معه أنني أعيش في حلم. كأنه يساورني إحساس أنني في لحظة حلم، لأنه لطالما حلمت بمثل هذا اليوم. مشهد حريتي رأيته آلاف المرات في أحلام يقظتي وأحلام نومي. إذاً، كانت فرحة عارمة. وما كان يثقل كاهلي وينتقص من سعادتي، ثلاثة أحزان:

الأول، الثمن الباهظ لهذه الحرّية؛ الشهداء والدمار الذي حلّ بأهلنا في غزة.

الثاني، المنفى؛ رغم الدفء الذي أحاطنا به شعب مصر والآلاف من الأحبّة من أبناء شعبنا في كل مكان وكذلك الأصدقاء من شتى بقاع العالم...

والثالث، أننا تركنا وراءنا الآلاف من الأسرى الذين يجري التنكيل بهم.

ومع ذلك، كان يوماً مشهوداً. سأحتاج إلى كتاب كامل أصف من خلاله ولادتي الجديدة، وهو مطبوع في رأسي، كتبته في ذاكرتي لأنه لم يكن مسموحاً لنا استخدام الأقلام والأوراق طوال عامي الحرب. وسأرصد من خلاله لحظات الترقّب والانتظار، لحظات الألم والعذاب والقمع، لحظة الانتقال من عالم القيود والأبواب الموصدة إلى فضاء الحرّية الشاسع. كانت لحظات لا تنسى، وستبقى محفورة في وجداني حتى آخر لحظة من العمر. باختصار، أنا في لحظة حلم تجسّد، حلم من الروعة والجمال.

كنت من روّاد الحركة الأسيرة، ما الذي خلّفته وراءك في السجون؟

أجل، كنت طوال 23 سنة منهمكاً في حياة السجن حيث كانت المهمات ثقيلة، تبدأ بالحفاظ على الذات من التكلّس والوقوع في هاوية اليأس، ولا تنتهي بمواجهة السجّان وأدواته القمعية والتنكيلية. لقد حافظنا على ما تركه لنا مَن سبقونا من الرعيل الأوّل من قيم ومبادئ ومنظمات اعتقالية وتقاليد وأعراف وطنية، وواصلنا طريق البناء والمواجهة.

لقد كانت ساحة الأسر ميداناً نضالياً له شروطه وظروفه الخاصة، بحيث تتصارع فيه إرادة الأسير وما تنطوي عليه من قيم وأهداف وطنية وإنسانية وأخلاقية، مع إرادة السجان المدججة بالحقد والكراهية والروح البهيمية. أمّا الانتصار في هذه المعركة، فهو من نصيب مَن يمتلك القدرة على الصبر والإيمان بعدالة قضيته. وطوال العامين الماضيين، لم تفوّت مصلحة السجون الصهيونية أي وسيلة تنكيلية إلا واستخدمتها ضد الأسرى الفلسطينيين. ومع الأسف، تركنا خلفنا الآلاف من الأسرى الذين يعانون الأمرّين ويواجهون بأجسادهم العارية بطش السجّان. وثمّة مخاطر حقيقية على حياة هؤلاء الأبطال ما لم نتحرّك جميعاً، قوى ومؤسسات وإعلاماً، لإنقاذهم وفضح الممارسات الفاشية الصهيونية بحقهم.

لمست، من كتاباتك السابقة، كما من حوارنا معك إثر خروجك، قراءتك العلمية والمعمقة للشأن "الإسرائيلي". كيف تقرأ المشهد في "إسرائيل" اليوم؟

المشهد "الإسرائيلي" معقّد، ولا ننسى أنه عشية السابع من أكتوبر كانت "إسرائيل" تشهد حالة غير مسبوقة من الانقسام واحتمالات انفجار أزمات قد تلامس الحرب الأهلية. وكنّا نقدّر أن "إسرائيل" قد تلجأ إلى تصدير أزمتها الداخلية من خلال افتعال حرب إمّا مع غزة أو لبنان. وبالتالي، فإن الحرب الهمجية التي شنّتها ضد أهلنا في غزة ولبنان، كانت مخططاتها موجودة في أدراج المؤسسة العسكرية منذ سنوات طويلة. لقد كشفت هذه الحرب الإبادية عن الوجه الحقيقي "لإسرائيل" بوصفها كياناً استعمارياً عدوانياً وتوسعياً، وعن زيف ادعاءاتها عن الديموقراطية والسلام والتحضّر، وأظهرت همجية هذا الكيان وإجرامه.

لكن "إسرائيل" عجزت عن حسم الحرب لصالحها بعد مضي أكثر من سنتين، حيث استطاعت المقاومة أن تحطّم أسطورتها الكاذبة، وقدّمت نموذجاً قتالياً عزّ نظيره في تجارب الشعوب. ومن زاوية ثانية، لم تتمكّن "إسرائيل" من التحرّر من أزمتها الداخلية العميقة بفعل الحرب. وفي رأيي، ستتفاقم هذه الأزمة مع الوقت. زد على ذلك إخفاقها في القضاء على المقاومة وتسجيل انتصارات واضحة على غرار ما كان يحدث إبّان حروبها مع الجيوش العربية في السابق.

ومن المرجّح أن تتعمّق الفاشية في "إسرائيل"، بل ويمكننا استخدام مفهوم «الروح البهيمية» التي تفشّت في دولة الكيان أثناء الحرب، وهي علامة على مستوى الانحطاط الذي وصلت إليه الدولة والمجتمع الصهيوني. وعندما تدخل الدول والمجتمعات في طور الانحطاط، فإن ذلك يعدّ دليلاً على قرب سقوطها.

وما هي قراءتك، في المقابل، للمشهد الفلسطيني؟

المشهد الفلسطيني مأزوم ومركّب، وإذا لم تسارع الحركة الوطنية الفلسطينية إلى التصدّي لمهماتها السياسية والوطنية، فإن الأوضاع مرشحة للتفاقم. فالاحتلال وقطعان المستوطنين يواصلون حربهم التدميرية على شعبنا في الضفة والقدس وقطاع غزة والمناطق المحتلة عام 48. نحن لا نزال في مرحلة تحرّر وطني، ما يستوجب الخضوع لشروط هذه المرحلة، ومن أهم شروطها الوحدة الوطنية وتصعيد المقاومة ضد الاحتلال.

نحن الآن، وفي ظل حرب الإبادة التي شنّتها وتشنّها "إسرائيل" بحق شعبنا، يتعيّن علينا أن نسارع إلى إنجاز المصالحة الوطنية والاتفاق على برنامج سياسي وكفاحي موحّد. ومن دون الاتفاق بين قوى الكل الفلسطيني، فإن قدرتنا على مواجهة العدو ستبقى قاصرة عن إنجاز الأهداف الوطنية. الأوضاع على الأرض في غاية الصعوبة، والأخطار محدقة بمشروعنا الوطني، وبوجودنا كفلسطينيين.

من المؤسف أن الكل الوطني لا يزال مشرذماً رغم فداحة الحرب العدوانية على غزة. كان علينا تنحية خلافاتنا السياسية جانباً والانشداد إلى المصالح الوطنية العليا. لا يزال أمامنا شوط كبير في المقاومة، ما يستدعي أن نكون موحدين لمواجهة الغطرسة الصهيونية. نحن بحاجة إلى ترتيب الصف الوطني وإعادة بناء البيت الفلسطيني الجامع. علينا أن نحترم ما قدّمه شعبنا من تضحيات كبيرة أثناء الحرب. ومن زاوية ثانية، ثمة مخاطر محدقة بالوضع الفلسطيني في ضوء المشاريع الأميركية والصهيونية التي تهدف إلى تصفية القضية الوطنية، أي إعادة الحديث عن صفقة القرن ولكن بصيغ أخرى.

تقول إنك ستعود إلى عملك السياسي والتنظيمي، وأنت الذي منحك السجن متسعاً للتأليف الغزير والمتنوع، هل ستكون العودة على حساب الكتابة؟

أنا منسجم مع هويتي كمناضل، وأعتبر ساحة المنفى محطة جديدة في حياتي، وسأواصل نضالي السياسي من هذه الساحة. أمّا الكتابة، فهي أيضاً جزء من مشروعي النضالي وأعتبرها مكملة للجهد السياسي والتنظيمي والكفاحي، ولن يكون النشاط السياسي والتنظيمي عائقاً أمام مواصلتي الكتابة. فنحن ننتمي إلى مدرسة الشهيد غسان كنفاني الذي كان يعمل في السياسة والتنظيم والإعلام والأدب. وهذه المدرسة جدّية وملتزمة وثورية. لهذا، لا أرى أي تعارض بين النشاط السياسي والحزبي وبين مواصلتي الكتابة. وسأظل ملتزماً بأدب المقاومة وفكر المقاومة.

*(المصدر: جريدة الأخبار)


 

اخبار ذات صلة