عذرًا غزّة، نفرحُ لكِ ونُبارك، لكن بغصّةٍ لا تُخطئُ الحلق. فكيف يكتملُ الفرحُ ونحن نعلمُ أنّ ما يُسمّى "وقف إطلاق النار" ليس سوى هدنةٍ معلّقةٍ على خيطٍ من دخان؟ هدنةٌ تُستراحُ فيها البنادقُ لتشحذ من جديد، وتُسكتُ فيها الأصواتُ كي تُعيدَ صدى الألم بعد حين.
نحن نعلم أنّ وقفَ إطلاق النار لا يرفع الحصار، ولا يُطفئ نيران السماء، ولا يحجب الظلمَ عن المظلومين الذين ترفع أصواتهم ولا يسمعها أحد. العالمُ سيشيح بوجهه مرة أخرى عن القتل والخروقات، وسينظر على غزة كما لو كانت مشهداً عابرًا، بينما الحقيقة تقول إنّ كل يومٍ جديد فيها سيحمل معه آلاف الجراح والدموع.
ستبقى غزة تُكابد وحدها، كما يكابد لبنان، جنوبه وبقاعه، بصمتٍ ثقيل، بين الدمار والمشاكسات السياسية، وفي وطنٍ يُربّي على الخيبة صبرًا يشبه الصلابة. وكلما هدأت البنادق قليلًا، تتأكد الحقيقة المؤلمة: أنّ السلام هشّ، وأنّ كل هدنة هي مجرد استراحةٍ قصيرة قبل الجولة التالية من القصف والخروقات.
نفرحُ لأنّ الدمَ هدأ قليلًا، لكنّنا نعرفُ أنّ الهدوءَ في غزّة ليس سلامًا، وأنّ كلّ لحظةٍ صمتٍ فيها تُخفي خلفها رعبَ طائراتٍ لا تنام، وحصارًا لم يزلْ يطوّقُ الأنفاسَ والموانئَ والمستقبل.
نُباركُ لغزّةَ صمودَها لا لسلامٍ مُزيّف، بل لأنها كتبتْ اسمها على وجهِ التاريخ بالدمّ لا بالحبر، ولأنّ أبناءَها ما انكسروا، رغمَ أنّ العالمَ انحنى من فرطِ الصمتِ والخذلان. نُباركُ لغزّة لأنّها ما زالت حيّة، في زمنٍ صارَ فيه الموتُ خبرًا عابرًا، ولأنّها تذكّرنا، كلّ يوم، بأنّ الكرامةَ ليست شعارًا بل امتحانًا دائمًا. ونرفع القبعة لمن صمدوا تحت القصف، ولقوا وجع الحرب بعزمٍ لم يلين.
وفي لبنان، حيثُ يشبهُ الجرحُ الجرح، وحيثُ الجنوبُ يعرفُ رائحةَ الرماد كما تعرفها غزّة، نشعرُ أنّ هذه التهدئة ليست بعيدةً عنّا، فنحن أيضًا ذقنا ذاتَ المرارة، وعرفنا كيف يبدو العالمُ حين يشيحُ بنظرِه عن المظلوم. لكننا نخشى على غزّة كما نخشى على أنفسِنا، من هدنةٍ تُدارُ بالسياسة لا بالضمير، ومن وعدٍ بالسلام لا يُترجمُ إلّا بمزيدٍ من الحصار والخذلان.
عذرًا غزّة، نفرحُ لأنّكِ صمدتِ، لكنّنا نعلمُ أنّ الصمودَ ليس نهاية المعركة، بل بدايتها الجديدة في وجه التجاهل والوجع والظلم المقنّع. نفرحُ لأنّكِ بقيتِ واقفةً حين انهار العالمُ من حولِكِ، لكنّنا نُباركُ بقلوبٍ تعرفُ أنَّ العدالةَ لا تُوقَّعُ في اتفاقيات، بل تُكتَبُ بالصبرِ، وبالإيمان، وبالإصرارِ على الحياة رغمَ الركام.
نبارك لغزّة صمودها، ونرفع صوتنا مع كل مظلومٍ فيها، ونقول للعالم: لا يكفي إيقاف إطلاق النار على الورق. والعدالةُ لا تُمنَح، بل تُنتزع بالوعي والصمود، وبالحق الذي يعرفه كل من يعيش تحت القصف، ويأمل بالسلام حتى في أصعب الظروف.. بالمقاومة.
غزّة، يا وردةَ النارِ التي لا تذبل، يا مِرآةَ الجنوب وضمير المقهورين، نُبارك لك لأنّك صمدتِ، لكنّ الغصّة تسكنُنا، لأننا نعلمُ أنّ العالمَ سيعودُ إلى لامبالاته، وسيتركُكِ كما تركَ جنوب لبنان من قبل، تواجهين وحدَك نارًا بلا لهب، وحصارًا بلا صوت. فلتبقي كما عهدناكِ: أشدّ من الحصار، وأقوى من الموت، وليعلموا جميعًا أنَّ في كلّ هدنة مؤقتةٍ، تولدُ فيكِ، وفي لبنان، إرادةٌ جديدة للمقاومة.