أسماء بزيع
في السادس من أكتوبر، ينفجر صدى الانطلاقة،
ليس مجرد يوم في التقويم، بل ولادة حُلم ثائر، وإعلان رفضٍ لا يُمحى. منذ تلك اللحظة الأولى، كان الجهاد الإسلامي في فلسطين أكثر من حركة سياسية أو فصيل مسلَّح — كان تجسيدًا لروح لن تُقهَر، لإيمانٍ أن الأرض المقدّسة لا تُستعمر، وأن الكرامة لا تُشترى بمعاهدة أو تفاوض.
واليوم، ونحن نشاهد بسواعد الصمود والمقاومة كيف تُكتب صفحات جديدة من البطولة في غزة، ومن أنفاس الانطلاقة إلى الآن، من نواةٍ مقاومةٍ إلى جبهةٍ تصرخ في وجه الظلم، من مخيمٍ يهوى الحُرية إلى أرضٍ تفيض عزًا، تتأكد حقيقة أن الانطلاقة لم تكن مجرد تاريخ، بل عهد حيٌّ لا يزال يُكتب بالنار والصبر والدم. وتبقى غزة اليوم عنوانًا للبطولة، ورمزًا لمن راهن على القوة والتيه، فخاب، ولمن راهن على الحق، فانتصر.
من بذرة واحدة إلى شجرة مقاومة
انطلقت حركة الجهاد الإسلامي من رحم التهميش والاحتلال، في زمن كانت الأيديولوجيات تستعر، والآمال متذبذبة، وحيث بادرت قوى كثيرة إلى المساومة أو التسوية. الجهاد كان خيارًا آخر: خيار التمرد، خيار الشهادة، خيار الحقّ.
في سنواتها الأولى، لم تمتلك الكثير، ربما لا المال، ولا السلاح المتطوّر، لكن ما كانت تملكه هو اليقين، ومعه عزيمة من نوعٍ نادر. فكانت تنبت شبكة مقاومة، لا تُطفئها الضربات، ولا تُكسرها السجون، بل تزيد من انفتاحها، وتوسيعها، إلى أن صارت اليوم لاعبًا لا يمكن تجاهله.
بلورة القدرات، رسوخ الثوابت
لم يكن الطريق مفروشًا بالورود؛ محاولات العدوان، القتل، الحصار والاعتقال، كل ذلك، لكن المقاومة تعلّمت في كل جولة، صمودًا أكثر، تكتيكًا أكثر دقة، وصدقية في الموقف أكثر وضوحًا. أنشأت "سرايا القدس" التي أصبحت ذراعه الصلبة، وكرّست العمل العسكري المقاوم كخيارٍ استراتيجي مركزي، لا ترفًا بل ضرورة، لا فرقة بل أمانة.
بهذا، الميدان الذي توقع البعض أن يُضعفها، صار مرآة لمعناها. كل قذيفة تُطلق، كل عملية تُنفّذ، كل ردٍّ على الاعتداء هو تأكيدٌ أن القضية حيَّة، وأن الجهاد عبر الزمن لم يبدّل مبادئه، بل طوّر أدواته وعزز صموده.
اليوم في غزة: أُسطورة من الصمود في وجه القمع
اليوم، وفي غزة، ينفجر النضال بأشكالٍ خُلّاقة؛ بأبطالٍ لا يُحسبون إلا بقلوبهم وقوتهم. في الشوارع، تحت القنابل، بين الأنقاض، يرتفع صدى الصواريخ، تتشابك الأصابع، تُرسم خُطوط مقاومة جديد، تحت عنوان: لا تراجع. المقاومة ليست وحدها تُقاتل؛ هي تُلهب النفوس، تُلهِم العزائم، تُظهر أن المواجهة ليست فقط مسألة سلاح، بل مسألة وجود، هوية، وإرادة.
إنّ ما يجري الآن من عمليات نوعية، من تحدٍ لاحتلالٍ يُغتصب، ومن صمودٍ في الصعد كافة؛ هذا هو الانتصار الذي لا يُقاس بخريطة الأراضي فقط، بل بخرائط القلوب التي لم تنكسر، بعقولٍ لا تُرضى بالذل ولا الحياد.
تحديات أمريكية- "إسرائيلية"، والرهان المضاد
في قلب المعركة ليست "إسرائيل" وحدها؛ هي أمريكا التي ترعاها، التي تدعمها بالسلاح والمال والدبلوماسية، التي تحاول أن تُشوّش على الحقائق أن تطعن في الشرعية، أن تُلصق تهمة "الإرهاب" حيث تكون المقاومة، أن تُجمِّل الاحتلال بخطاب السلام. لكن التحدي الأكبر للهامش هو التحدي الداخلي: الخوّة، اليأس، التشويه الإعلامي، الخيانة، الضغوط السياسية والدولية.
هنا تُمتحن المقاومة: كيف يحافظ على اتّساقه العقائدي، على نُزاهته أمام الرأسمال السياسي، على صموده أمام العالم الذي يُغريه بعروض التسوية، أو يضغط عليه بالحصار، أو يُشيطينه إعلاميًا ليفقد تأييد الشارع. إلا أن الانتصارات الأخيرة في غزة تُظهر أن الرهان المضاد، أي الرهان على المقاومة، ليس مجرد رهان عاطفي! بل رهان استراتيجي عملي. كل عملية تُطلق، كل نفق يُحفر، كل مقاوم يُصاب ثم ينهض، هو تجسيدٌ عملي أن الضغوط الأمريكية – الإسرائيلية لا تُخيف من يملك الحقّ، أو لا يُخشى القبح.
6 أكتوبر - ليس مجرد ذكرى بل عهد حيّ
في هذا اليوم، الذي صارّت فيه انطلاقة الجهاد الإسلامي رمزًا، نحتفل ليس بالماضي فحسب، بل بالحاضر الذي يُنادي: أنّ الكرامة محفوظة، وأّ المقاومة مستمرة. المقاومة بعد عقود من الصمود، بعد حروبٍ وعدّة محاولات للقضم والتهميش، تثبت اليوم أن القضيّة الفلسطينية ليست قضية أعداد أو قدرة عسكرية فحسب، بل قضية مبادئ، قضية إخلاصٍ للتاريخ، ورفضٍ للتنازل.
منذ انطلاقتها إلى اليوم، كانت الجهاد الإسلامي كالسَّراج المضئ في عتمة الشتات والمخيمات، تنير دروب الناس، تُثبت أن الأرض لا تُباع، وأن الوطن لا يُقسم، وأن العزيمة التي خُلِقَت في السادس من أكتوبر لا تموت، بل تنبت من جديد تحت ركام الحصار، تحت دوي الطائرات، وتحت دمع الأمهات. وفي غزة اليوم، حيث تنتفض الجراح، يُكتب التاريخ بدم المقاومين، بأحجار الشوارع، بصراخ الأطفال، بصمود العائلات. هناك، يولد الانتصار، ليس حين يسقط آخر جندي، بل حين تستيقظ الإرادة، وتبقى القضية حيّة في القلوب، لا تُذلّ ولا تُهزم.
