بسبب حرب الإبادة الجماعية التي يرتكبها العدو الصهيو-أميركي في قطاع غزة منذ ما يقارب ال800 يوما، باتت الجماهير في العالم تطالب، ليس فقط بإيقاف المجازر الفظيعة التي تقترف باسم الحضارة الغربية، بل القضاء على الكيان الصهيوني وإزالته عن الوجود، بعد إدراكها أنها ساهمت خلال عقود من الزمن، ولو بطريقة غير مباشرة وبأساليب مختلفة، بتمكين الوحش الصهيوني من السيطرة على فلسطين والمنطقة والعالم.
استيقظت شعوب العالم بعد ال7 من أكتوبر المجيد والحرب الإجرامية الصهيو-أميركية التي تلته، وتفهّمت القضية الفلسطينية من أساسها واعتبرت أن الوقوف الى جانب الشعب الفلسطيني ومقاومته الشرعية للصهاينة واجب أخلاقي وانساني. فأعادت النظر في كل الأكاذيب التي روجّها الصهاينة عبر الحكومات والمؤسسات التعليمية والإعلامية الغربية خلال أكثر من سبعين عاما لتكتشف أن الكيان الصهيوني عبارة عن تجمّع استيطاني وحشي يخدم الهيمنة الغربية على المنطقة والعالم.
صعد هذا الوعي بالحقيقة الفلسطينية بفضل المقاومة الشجاعة المستمرة في فلسطين وفي المنطقة العربية (اليمن حكومة وشعبا وجيشا وحزب الله في لبنان) وصمود أهلها وعدم استسلامها أمام الوحشية وحرب الإبادة الصهيو-أميركية وأمام ضغوط أعوان العدو والمستسلمين من الحكام والمتنفذين العرب والمسلمين. ثم بفضل الجاليات العربية والإسلامية في الدول الغربية والشرقية التي ساهمت بتوضيح حقيقة الصراع وتحدّت الأساطير الغربية حوله وربطت بين واقع الشعوب المقهورة من قبل حكامها وعسكرة المجتمعات الغربية وبين واقع الصراع في المنطقة، حيث أن تحرير فلسطين من الاستعمار الصهيوني وتحرير الوطن العربي من الهيمنة الأميركية يدفعان الى سقوط الامبرطوريات المالية والأمنية التي تتحكم بمصير الشعوب.
قد لا يكون الوعي بهذه الحقائق عاما وراسخا لدى الشعوب كافة، لكن كلما انخرطت حكومات ومؤسسات مالية وإعلامية في حرب الإبادة الصهيو-أميركية، كلما كان وعي الشعوب بطبيعة الصراع مرتفعا وحادا، كما ظهر في بعض الحركات الداعمة للشعب الفلسطيني ("فلسطين أكشن" في بريطانيا مثلا، رغم القمع الممنهج والتهديدات الحكومية ضد مناصري فلسطين، حيث أصبح الإعلاميون المناصرون للحق "إرهابيين" بنظر المنظومة الأمنية الغربية).
تأكد المستوطنون الصهاينة اليوم أن أساطيرهم المخترعة والمتاجرة بمظلومية المواطنين الأوروبيين اليهود سابقا لشرعنة كيانهم الإرهابي لم تعد مجدية، رغم دعم الحكومات الغربية لهذه الأساطير ولإقامة مستوطنتهم في فلسطين ولعدوانهم المستمر ضد شعوب المنطقة. فالمجازر الفظيعة التي يرتكبونها التي تتمثل اليوم بقصف المستشفيات والأبراج السكنية وتجمع الصحافيين وتفجير عربات مفخخة داخل الأحياء المكتظة بالسكان وقتل المجوّعين قنصا أو تفجيرا أمام الكاميرات، وبإعدام الأسرى المجوّعين بعد تعذيبهم في سجونهم، وبالتصريحات المعادية للإنسانية التي ما زالت تخرج من أفواههم، أقوى وأبلغ من كل الدعاية المفبركة التي سوّقوها للعالم خلال أكثر من قرن من الزمن، والتي ساهمت في صناعتها العواصم الغربية وتبنّتها الشرقية، قبل أن تصبح من ركائز "المجتمع الدولي".
تحاول بعض العواصم الغربية التنصّل من دعمها البشري والمالي والعسكري والأمني والإعلامي الذي أمّنته للإبادة الجماعية في قطاع غزة وللتهجير الممنهج للشعب الفلسطيني الذي ينفذها العدو الصهيو-أميركي، عبر تصريحات فارغة من ناحية وعبر اقتراح- إبتزاز يطلق عليه اسم "حلّ الدولتين" أو "الاعتراف بدولة فلسطين" من ناحية أخرى. بدلا من اتخاذ إجراءات عملية ضد حرب الإبادة الجارية (وقف تسليح جيش العدو، منع مواطنيهم من الالتحاق به، المساهمة في طرد الكيان الإرهابي من المؤسسات والمنظمات الدولية، حماية أساطيل المتضامنين المتجهة الى قطاع غزة، مثلا)، تسعى هذه الدول ومن ورائها بعض الدول العربية والإسلامية، لحرف النظر عن المأساة والمذابح اليومية وإقامة زوبعة إعلامية سياسية شكلية لا تقدّم أي دعم للشعب الفلسطيني، بل تشترط عليه إنهاء مقاومته وتسليم سلاحه للعدو والاعتراف بالكيان الإرهابي الذي سرق أرضه.
لقد أزعج هذا الاقتراح كيان العدو الصهيو-أميركي، ليس لأنه داعم لفلسطين وشعبه، بل لأنه يعيد إحياء كلمة فلسطين في الدوائر الدولية في حين يسعى منذ سنتين تقريبا الى محو هذه الكلمة نهائيا من القواميس الرسمية في العالم.
انتقدت المقررة الخاصة للأمم المتحدة بشأن الأراضي الفلسطينية المحتلة، فرنشيسكا ألبنيز، مواقف دول الاتحاد الأوروبي الخبيثة والفاترة اتجاه المذابح والتجويع والتهجير في فلسطين، معتبرة أن بإمكانها وقف حرب الإبادة إن أرادت فعلا، إلا أنها ليست جبانة فحسب بل متواطئة ولا يربكها إلا التجاوز الصهيو-الأميركي لحدود ما تعتبره حضارتها، رغم التاريخ الدموي لأوروبا في العالم باسم الحضارة. من خلال ابتزازها لشعوب المنطقة (استسلام ورضوخ للهيمنة الصهيو-أميركية مقابل بعض المساعدات والاعتراف بوجود كيان فلسطيني وهمي)، تحاول هذه الدول امتصاص غضب شعوبها ومنع تجذّر وعيها بطبيعة الصراع في فلسطين والمنطقة. لم تؤثر بعد التصريحات الشجاعة التي صدرت عن بعض المسؤولين الأوروبيين (نواب، رؤساء بلديات، أعضاء في حكوماتها) على السياسة العامة لهذه الدول، فظلت المواقف الرسمية الأوروبية داعمة للهيمنة الصهيو-أميركية على المنطقة ورافضة لمبدأ المقاومة.
هذا ما يمكن استخلاصه مثلا من الموقف الفرنسي، حيث تتجسس المسيرات الفرنسية على المناطق الجنوبية في لبنان، تحت غطاء اليونيفيل، لمساعدة العدو الصهيوني على التحكم والقتل في الوقت الذي تتحدث فيه عن مسألة الاعتراف المشروط بدولة فلسطين.
لم تعد خافية على أحد المشاركة الفعّالة الغربية عموما والأميركية خاصة في حرب استئصال الشعب الفلسطيني عن وطنه، وحرب الهيمنة على شعوب الأمة وتفتيت دولها. لذلك، عليها التوجّه للمطالبة بإزالة القواعد العسكرية الأميركية في وطننا، المهدّدة لأمننا الجماعي وتصفية كل التواجد الأمني الغربي الداعم لكيان العدو أولا وآخرا. مواجهة الهيمنة الأميركية-الغربية على الوطن العربي مهمّة لا بد منها لنيل الحرية والاستقلال وتوحيد شعوب الأمة.