وكالة القدس للأنباء
" النزوح انكسار داخلي، ومعركة يومية ".
" النزوح هروب من الموت إلى موت آخر، بشكل مختلف ".
" النزوح يعني أن تترك وراءك حياتك ".
" النزوح أقصى أنواع الوجع ".
هذا بعض ما رصدته "وكالة القدس للأنباء"، على لسان بعض النازحين قسراً من مدينة غزة، تحت وابل القصف الصهيوني الوحشي، والمجازر البشعة، التي لم تستثن طفلاً، ولا امرأة أو مسناً، أو بنية تحتية، أو مستشفى، أو مركز إيواء.

اضطر بعض الغزاويين الذين أصروا على البقاء والصمود إلى مغادرة القطاع، بعد أن تم قطع أخبارهم عن العالم، فلا انترنت ولا تغطية إخبارية، وقد تكبد هؤلاء النازحون تكاليف باهظة وهم متجهون إلى الجنوب، فاقت طاقتهم، حيث بلغ متوسطها قرابة 2500$، وهو مبلغ يصعب توفيره، في هذه الظروف الصعبة، ناهيك عن الأزمات النفسية، حيث عانى الأطفال والنساء من آثار الصدمة، فوثقوا معاناتهم بالصوت والصورة، عل العالم يرى ويسمع ويتحرك.

أرسلت أطفالي إلى المجهول!
وفي هذا السياق، قال طه خليل خليل، لعدم توفر مواصلة للجنوب، "كان القصف جنوني في حارتنا، اضطررت أن أضع أطفالي فوق شاحنة ذاهبة للجنوب، وأنا بقيت في الشمال حتى أحصل على مواصلة، ذهب أطفالي إلى المجهول، وأنا شبه متيقن أني لن أراهم مجدداً"، مضيفاً: "تخيل أني وضعتهم فوق شاحنة شخص غريب، أوصيت خالتهم أن تقف في الطريق لعلها تصادفهم عند تبة النويري، بعد 12 ساعة وصلوا بحالة يرثى لها، سقطوا عن الشاحنة في الطريق، ربنا سترهم، المفجع وأنت تجري خلف الشاحنة وأطفالك تجري وتضع الواحد تلو الآخر وتودعهم بالدموع والقهر، هل هذه النهاية؟ هل سأراكم؟ هل ستروني؟ وأمهم من ورائي لاحول لها ولاقوة غير البكاء والحسرة، لكن لا نقول سوى، حسبنا الله ونعم الوكيل".
أما منى، فأكدت أن "أصعب مراحل الحرب هي النزوح، والله أن الموت أهون ألف مرة من شقاء النزوح، والله قتلونا بالرصاص مرة واحدة، وقتلونا بالنزوح ألف مرة، أبسط وصف للنزوح هو اقتلاع الروح من الجسد، حياة كاملة تُقتلع من مكانها ويُلقى بها إلى المجهول، مجهول لا يمكن وصفه سوى بصعوبة بالغة الشدة من القدرة على التكيف والتأقلم مع واقع يفتقد لكل شيء، أولها يعجز الإنسان عن توفير مكان آمن للنوم أو لقضاء الحاجة، حسبنا الله ونعم الوكيل".

النزوح عذاب نفسي!
من جانبها، وثقت هبة، رحلة نزوحها لعدة مرات قائلة: إن "النزوح الأول، طلعونا من البيت في 7 أكتوبر، نظرت إلى غرفتي.. إيش آخذ معي! محتارة كل شي غالي علي، كل شي فيها جبتو بدم قلبي شو آخد وشو أترك!"، مضيفة أن "النزوح في مدرسة أيام من الاختناق النفسي والروحي، والإرهاق الجسدي، عذاب عذاب مع ضغط الناس الهائل ولا لحظة هدوء أو دقيقة خصوصية، أما النزوح من المدرسة تحت القصف والقذائف والرصاص اللي نازل علينا زي المطر وبتجري بالشارع مش عارف وين تروح".
وأشارت هبة إلى أنها "بعدها النزوح في خيمة في عز الشوب وكأنك قاعد بتتحمص تحت الشمس، الشعور بإنو قلبك منفوخ لدرجة ينفجر من الضيق مافي نفس مافي هوا، وبعدها الرجوع للمدرسة بعد عذاب، الخيمة تحس عذاب، ومعاناة المدرسة جنة، أقل ما فيها حيط وظل، ورجعنا نزحنا ثاني من المدرسة لخيمة... شعور الإرهاق لا يوصف ولا أي كلمة في قاموس اللغة العربية تدل على أقصى الوجع، تعادل كلمة النزوح، وبعدها الرجوع للمدرسة ثاني بعد ما صار في تخدر في المشاعر، النزوح أسوأ كلمة على الإطلاق، ولا أي وصف مشاعر ممكن يعطيها حقها بالنسبة لأهل قطاع غزة".

يا مرحبا بالموت!
بدوره، أوضح جمال إياد، أن "النزوح يعني أن تترك وراءك حياتك، أن تحزم الخوف في حقائبك وتغادر لا لأنك تريد بل لأن البقاء يعني الموت، النزوح ليس الانتقال من مكان إلى مكان، بل هو انكسار داخلي ومعركة يومية للبقاء بكرامة وسط العدم، النزوح هو أن تهرب من الموت إلى موت آخر بشكل مختلف اسمه الخوف والجوع والغربة والانتظار"، مبيناً: "هذا هو النزوح، كنا ننزح من خيمة إلى مدرسة ومن مدرسة إلى خيمة أما الآن الوضع مختلف، ننزح بالغصب إلى المجهول، والتكاليف باهظة جداً ولكن نحن أمام خيارين إما النزوح أو الموت، فنحن إن نزحنا من أجل الأطفال والنساء أما نحن الرجال: يا مرحبا بالموت!"

معاناة البحث عن الحياة
أما ابراهيم فقال: "سُجِن جميع أفراد عائلتي عند العدو الصهيوني، عندما تم محاصرتهم في حي الزيتون في المرة الأولى، وعذبوهم ومن ثم أخرجوهم في رفح فقط بملابسهم التي يرتدونها والسماء غطاءهم، أمي وأبي وإخوتي الشباب الثلاثة.. وقد بدأوا معاناة البحث عن الحياة من جديد من تحت الصفر، أكرمهم الله بأبناء الحلال، وأخذوا يرتبون أوضاعهم كباقي الناس، قارورة، على ملعقة، على خشبة، على خيمة وعلى ملابس مستعملة الخ، وقد أكرمهم الله بالرجوع إلى غزة في الهدنة، فهم أُخرجوا منها مسجونين ولم يخرجوا طوعاً، البارحة العدو قصفهم مرة أخرى ليخرجوا أحياء بفضل الله من هذا القصف، ولكن كما ولدتهم أمهم مرة أخرى، في رحلة جديدة للبحث عن الحياة من الصفر، فاللهم إنّا راضون فارضى عنا".
هذه بعض من صور النزوح، أطلقها غزاويون وغزاويات، من جراح تنزف صمودا، وعزة وكرامة، تؤكد إصرارا على الثبات والتمسك بالبقاء فوق هذه الارض، التي ارتوت بدماء وعرق أهلها، واحتضنت عشرات آلاف شهدائها، الذين تصدوا للعدوان الصهيوني الأميركي الغربي، وبعض "العربي"، بصدور لا تعرف سوى الإصرار على استمرار المقاومة مهما غلت التضحيات، ولسان حالهم يردد مقولة شيخ المجاهدين عزالدين القسام: "هذا جهاد نصر أو استشهاد"... وما النصر إلا صبر ساعة!..
